تأثير رسالة حي بن يقظان في الأدب الإسباني
.
تأثير رسالة حي بن يقظان في الأدب الإسباني
د. محمد محمد محمد عليوة
يعالج هذا البحث مظاهر تأثير رسالة حي بن يقظان للأديب الأندلسي ابن طفيل الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي ، في الأدب الإسباني من خلال عمل روائي هو رواية “النقادة” للكاتب الإسباني بلتسار جراثيان الذي عاش في القرن السابع عشر ، ومسرحية “الكلمة الثالثة” للكاتب المسرحي الإسباني أليخندرو كاسونا الذي كتب مسرحيته في النصف الثاني من القرن العشرين.
بدأ الباحث دراسته ببيان أهمية “رسالة حي بن يقظان” على الصعيد العالمي بصفة عامة ، وبين المفكرين والأدباء الأوربيين على نحو خاص. ثم حدد خط سيرها نحو الأدب الإسباني ، سواء في القرن السابع عشر أم في القرن العشرين ، من خلال ثلاث مراحل ؛ المرحلة الأولى مرحلة الشهرة والانتشار من خلال ترجمات الرسالة إلى اللغات الأوربية بدءا من أواسط القرن الرابع عشر الميلادي . ثم مرحلة تأثير الرسالة في الأعمال الأدبية الغربية ، ومنها الأدب الإسباني ، في القرن السابع عشر ، ثم المرحلة الثالثة وهي مرحلة تفسير وجوه الشبه بين الرسالة ورواية النقادة الإسبانية ، وتعليل الدارسين الأوربيين لهذا التشابه : هل هي تشابهات عارضة أم أنها وليدة تأثير رسالة حي بن يقظان في رواية النقادة.
وقد قسم الباحث جهود الدارسين الأوربيين ، داخل إسبانيا وخارجها ، حول علاقة ابن طفيل ببلتسار جراثيان ، إلى مرحلتين ؛ المرحلة الأولى هي ما أطلق عليه “نظرية التأثير” حيث أثبت جميع الآراء الغربية التي فسرت التشابه بين “الرسالة” و” الرواية” بأنه راجع إلى تأثر الكاتب الإسباني بالأديب الأندلسي. وأما المرحلة الثانية فهي ما أطلق عليه اسم “غرثية غومث وتغيير الاتجاه” ؛ ذلك أن المستعرب الإسباني إميليو غرثية غومث ألفى مخطوطة عربية مجهولة المؤلف ، تضمنت قصة جاءت تحت عنوان “قصة الصنم واللمك وابنته” ادعى من خلالها أن بلتسار جراثيان اطلع عليها وتأثر بها ، ولم يتأثر برسالة حي بن يقظان. كما أن هذه القصة كانت مصدرا لابن طفيل نفسه . وبذلك تسقط نظرية تأثير الأديب الأندلسي في الكاتب الإسباني لهذا السبب ، ولسبب آخر مؤداه أن رواية الكاتب الإسباني ظهرت في أيدي الناس قبل ظهور أول ترجمة لاتينية للرسالة بنحو عشرين عاما.
غير أن الباحث لم يرضه صنيع إميليو غرثية غومث ، ومن والاه . ومن ثم فقد ناقش الباحثُ حجج غرثية غومث وأسانيده مناقشة تفصيلية لأول مرة باللغة العربية ؛ إذ اطلع على كل الوثائق الخاصة بالموضوع في لغاتها الأوربية ، وهو أمر لم يكن متاحا للدراسات العربية التي طرقت الموضوع من قبل.
وقد انتهى الباحث إلى بطلان نظرية إميليو غرثية غومث ومن ظاهره من المفكرين والنقاد الإسبان ، ليؤكد تأثر الأديب الإسباني بالأديب الأندلسي.
ثم أضاف الباحث إضافتين علميتين جديدتين ، فضلا عن توفير عدد كبير من الوثائق الخاصة بالموضوع من لدن غرثية غومث. الإضافة الأولى تتمثل في نقل اقتباسات كثيرة من “قصة الصنم والملك وابنته” لأول مرة باللغة العربية ؛ إذ لم تكن نصوص هذه القصة متاحة قبل إعداد هذا البحث. وأما الإضافة الثانية فتتمثل في كشف تأثير جديد لأول مرة لرسالة حي بن يقظان في المسرح الإسباني المعاصر. وقد أثبت بأدلة يقينية تأثر الكاتب المسرحي أليخاندرو كاسونا بالأديب الأندلسي ابن طفيل. وبهذا يكون البحث قد عالج معالجة تفصيلية أربعة أعمال أدبية دارت حول موضوع واحد . اثنان من هذه الأعمال كتبا بالعربية وهما “رسالة حي بن يقظان” و”قصة الصنم والملك وابنته” ، واثنان كتبا بالإسبانية هما رواية “النقادة” ومسرحية “الكلمة الثالثة”.
The Effect of Hayy Ibn Yaqdhan’s Message on Spanish Literature
Dr. Mohammed Mohammed Mohammed Eliwa
Professor at Faculty of Dar Al Uloom – Cairo University
Abstract
This research deals with the manifestations of the effect of Hayy Ibn Yaqdhan’s Message by Ibn Tufail, on Spanish literature, in the novel El Criticón by Baltasar Gracián, who lived in the seventeenth century, and the play The Third Word, written by the playwright Alejandro Casona, who wrote his play in the second half of the twentieth century.
The research explores the disparity of the European attitude towards the issue of influence. Some decided to prove this influence. Others, led by Emilio García Gómez, the master of Spanish Arabists, decided that the source that Ibn Tufail and Baltasar borrowed from goes back to an Arabic manuscript that includes a story entitled “The Idol, the King and his Daughter.” The latter view was rejected by the researcher, a rejection that is based on conclusive evidence, as the researcher emphasizes the Andalusian effect on Spanish literature.
This is not where the research ends. It also enriches the Arabic library with many texts from the story “The Idol, the King and his Daughter,” and reveals how Alejandro Casona, the Spanish playwright, was influenced by Ibn Tufail as well.
Resumen:
El segundo se ocupa de observar la influencia del mensaje de Ḥayy ibn Yaqẓān de Ibn Tufail en la literatura española. El estudio se centra en la repercusión del “mensaje” en la novela El Criticón de Baltasar Gracián del siglo XVIII y en la obra teatral La tercera palabra de Alejandro Casona que pertenece a la segunda mitad del siglo XX y que hasta la actualidad se estrena en los teatros de España y América Latina.
تأثير رسالة حي بن يقظان في الأدب الإسباني
د. محمد محمد محمد عليوة*
رسالة حي بن يقظان ، للأديب الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل ، من الأعمال الأدبية الكبرى العميقة في الأدب العربي التي تخطت الحدود اللغوية والجغرافية ، وانتشرت انتشارا منقطع النظير في مشارق الأرض ومغاربها . راجت (الرسالة) بين الغربيين رواجا منقطع النظير ، وطارت لها شهرة طاغية، بحيث لم يكد يزاحمها في الشهرة والانتشار ، وإن كان على بُعدٍ في المساحة الجغرافية والحيز الزمني ، سوى عمل أندلسي آخر ، هو كتاب طوق الحمامة لابن حزم .فهذا الكتاب الأخير نال ، كذلك ، حظا غير قليل من الشهرة والانتشار في الدوائر الأجنبية الخارجية ، لكنه يأتي دون رسالة حي بن يقظان في هذه الناحية . وقد أشارت الباحثة الإسبانية ماريا خيسوس لاكارَّا إلى ” ما انتهت إليه الدراسات النقدية اللاحقة من إبراز أهمية عملين اثنين رائدين ، من أبرز روائع الأدب النثري العربي في الأندلس ، لا ينازعهما في ذلك كتاب ثالث، وهما طوق الحمامة ورسالة حي بن يقظان”[1].
جدير بالذكر أن إميليو غرثية غومث هو صاحب العبارة الشهيرة التي جعلت من رسالة حي بن يقظان ، إلى جانب كتاب طوق الحمامة ، وقد خرجا إلى الوجود من رئتي اثنين ممن أدركتهما حرفة الأدب والفلسفة في وقت واحد، وهما الأديبان الفيلسوفان ابن طفيل وابن حزم ، أعظمَ ما أنتجته القرائحُ العربيةُ ، من إبداعٍ نثريٍ في الأندلس[2]. لكن قبل إميليو غرثية غومث كان مرثلينو منندث بلايو ، في فترة تاريخية مبكرة ، قد لفت الأنظارَ إلى الأهمية البالغة التي يمثلها عملُ ابن طفيل بوصفه العملَ الأدبيَ الفلسفيَ الأكثرَ أصالةً والأكبر عمقا في تاريخ الإبداع الأدبي في الأندلس ، ومن ثم فحقيق بالإسبان أن يباهوا بأن هذا المفكر العظيم قد ولد على متن الأرض الإسبانية[3] ؛ إذ قال عام 1900 في المقدمة التي كتبها لأول ترجمة إسبانية لرسالة حي بن يقظان ، وهي الترجمة التي اضطلع بها فرانثيسكو بونز بويجس، ونشرت في مدينة سرقسطة: “هذا الكتاب النازح الشامخ ، يبرهن على الأفق الأعلى الذي وصلت إليه الفلسفة بين العرب الأندلسيين . وفي ضوء ما انتهت إليه الدراسات الاستشراقية ، فإن هذا الكتاب يعد العمل الأدبي الأكثر أصالة والأكبر أهمية في الأدب الأندلسي كله . وأكثر من ذلك فإن قليلا من مفاهيم الإبداع الإنساني هي التي وصلت إلى هذا المستوى من القيمة والعمق . وبعيدا عن كل طرق الإيمان قلما نُلفي شجاعة في التفكير وجسارةً في التأمل أكبر مما أظهره مؤلف رسالة حي بن يقظان المعلمُ نفسَه في كتاب نفساني وجودي ، وفي الوقت نفسه ، صوفي واقعي ، مندفعا في تحد جسور لكل ظروف الحياة الإنسانية وملابساتها ، لإعادة الاندماج ، بعد ذلك ، في إطار قالب من الانتشاء التعبدي العنيف. ومن البين أن كل عقيدة من شأنها أن تعزل الإنسان ، من حيث البدء ، عن إنسانيته ، إن هي إلا عقيدة مزيفة صماء ، وهي صماء كذلك ، من حيث النهاية ، إن آثرت أن تنتحي جانبا في تعصبها الإشراقي .أما فلسفة ابن طفيل فقد انطوت على عنصر شخصي ، كان من القوة بحيث يمنع من الوقوع في أقصى المناطق الموترة للأعصاب عند البوذية الجديدة ، وعند أتباع مذهب الطمأنينة وسموم أخرى من الذكاء الإنسان سم زعاف قاتل لها وهو أفيون الجسم. عبقرية ابن طفيل الإسبانية وقد غطت الكون بنظرة بانورامية واسعة مغتبطة بتأملها مقدمة أعلى قيمة ذاتية من قبلها للتشريح وعلم وظائف الأعضاء ، والفلسفة والبحث في الظواهر الطبيعية وأسبابها وتمجيد المواقف البطولية والقوى الخارقة (لحيٍّ) على نحو خاص – من شأنها أن تحقق انتصارات ليس في العالم الخارجي ، فحسب ، وتتلاءم مع غاياتها ومقاصدها ، وتبتكر فنونا مفيدة مثل (روبنسن) . وإنما ، تنتصر ، كذلك ، في عالم الروح ، وتعيد تمجيد الإبداع ، على طريقتها ، ولا يمكن الخلط بينها وبين المثالية العدمية ، على الرغم من كل احتجاجات الأباطيل الواضحة.”[4] .
وإذا كان كل من مرثلينو منندث بلايو وغرثية غومث ، ومن والاهما، قد انتهيا إلى أن رسالة حي بن يقظان هي أهم أثر أدبي في الأندلس ، فإن باحثين غربيين آخرين قد وسعوا دائرة الاهتمام بالرسالة لتنتقل من المحيط الإقليمي الذي نبتت وترعرعت فيه ، على متن شبه جزيرة إيبريا ، إلى الفضاء الإنساني العالمي الواسع ؛ إذ اكتسبت بعدا إنسانيا عالميا ، لم تعد معه مقصورةً على منطقةٍ جغرافيةٍ معينةٍ أو مرحلةٍ زمنيةٍ محددةٍ ، وما كان لها أن تظل قابعةً في إطار ِلغةٍ واحدةٍ لا تبرحها ، وقد تناولها الدارسون من مختلف الجنسيات ترجمة وبحثا .[5]
يقول خوسيه بيرجورا : “رسالةُ حي بن يقظان واحدةٌ من الأعمال الأكثر أهمية التي كُتِبَتْ على الإطلاق، فما تضمنه الكتاب من تمجيد التفكير والارتفاع به إلى سماوات عليين وعمق التأمل والسمو الأخلاقي – كل أولئك من شأنه أن يجعل الكتاب يتبوأ مكانة سامية متميزة ليس بين أفضل الكتب الفلسفية التي كتبت في إسبانيا فحسب ، وإنما ، بالإضافة إلى ذلك ، إلى جانب أفضل ما أنتجته القرائح الإنسانية بطول التاريخ”[6].
وما كان للدوائر الغربية أن تخلع على رسالة حي بن يقظان هذه الأهمية من فراغ، فقد وجدت الرسالة آذانا صاغية ، وقلوبا حانية ، وعقولا متفتحة ، إذ مثلت غذاء فكريا وعقليا ووجدانيا وتربويا بين وملكاته الذاتية التي تتجلى من خلال تناوله للموضوع ، فضلا عن المعمار الأدبي الذي يشكل من خلاله الموضوع.يحاءات الأسطورية واحدة.ضيدى الغربيين ، ليس عند طائفة معينة أو تيار محدد في حقل معرفي واحد ، وإنما وجدت تجاوبا منقطع النظير من أناس مختلفي النحلة والجنسية تتوزعهم حقول معرفية مختلفة . ولم يقتصر الاهتمام بها في منطقة جغرافية واحدة ، أو في مرحلة زمنية محددة ، وإنما كانت حديث العلماء والكتاب والأدباء والمفكرين في مناطق مختلفة وعبر مراحل زمنية متتابعة ، بدءا من القرن الثامن عشر حتى يوم الناس هذا. وبوسعنا أن نحدد تجليات حضور الرسالة في المجتمعات العلمية والأدبية والفلسفية لدى الأوربيين من خلال ثلاث مراحل ، تتداخل فيما بينها ؛ مرحلة الترجمة ، ومرحلة التأثير ، ومرحلة الدرس والتفسير.
وسوف نتتبع – من خلال هذا البحث – مظاهر تأثير (الرسالة) في أدب واحد من الآداب الأوربية هو الأدب الإسباني ، مركزين على عملين اثنين أحدهما روائي ينتمي إلى القرن السابع عشر وهو رواية “النقادة” لبلتسار جراثيان ، والثاني عمل مسرحي كُتب في النصف الثاني من القرن العشرين وهو مسرحية “الكلمة الثالثة” لأليخاندرو كاسونا. استأثر العمل الأول بأكبر قدر من المناقشات في الأوساط النقدية الأوربية بصفة عامة ، والإسبانية منها على نحو خاص ، واحتدم الجدل واشتدت الخلافات بشأن علاقة هذه (الرواية) برسالة حي بن يقظان. وأما العمل الثاني وهو مسرحية الكلمة الثالثة ، فلم يهتم به أحد ، من حيث علاقته بالأدب العربي. وسيكون عدول الباحثين عن الكشف عن المصادر العربية للمسرحية المذكورة دافعا لنا للتركيز على هذه الناحية وملء هذا الفراغ . ولسوف يتيح هذا البحث المجال، لأول مرة ، لظهور نصوص من مخطوطة ذُكر اسمها في الدراسات العربية والغربية المقارنة ، دون الوقوف أمام نص المخطوطة ذاته . قصدتُ بذلك “قصة الصنم والملك وابنته”. فلم تظهر هذه الأخيرة محققة باللغة العربية حتى تاريخ إعداد هذا البحث. وهو الأمر الذي سيضطلع به كاتب هذا البحث .
وبذلك تجتمع بين يدي هذه الدراسة أربعة أعمال ، اثنان منها كُتبا اللغة العربية ، وهما “رسالة حي بن يقظان” و”قصة الصنم والملك وابنته” ، واثنان كُتبا باللغة الإسبانية وهما رواية “النقادة” ومسرحية “الكلمة الثالثة”. وسأستعيض عن ذكر العناوين الكاملة لهذه الأعمال ، أحيانا ، على امتداد هذه الدراسة بذكر كلمة واحدة ؛ فكلمة (الرسالة) سيكون المقصود بها “رسالة حي بن يقظان” وكلمة (الرواية) ستكون بديلا عن رواية “النقادة” ، وأما (القصة) فسيراد بها “قصة الصنم والملك وابنته”، وأخيرا عندما تذكر (المسرحية) فسيكون المراد مسرحية “الكلمة الثالثة”.
المرحلة الأولى-الترجمة: شهرة وانتشار
في ضوء ما انتهى إليه نفر من الباحثين الغربيين”يبدو أن هذه الرواية تُرجمت إلى اللغة العبرية في العصور الوسطى ، وأن هذه الترجمةَ هي التي اعتمد عليها موسى النربوني في شروحه وتفسيراته عام 1349 . وهذه الشروح والتفسيرات كانت منتشرة على نطاق واسع ، يدل على هذا عدد المخطوطات الكثيرة التي وصلتنا لهذه الشروح. وترجح دراسات أوربية حديثة فرضية مؤداها أن ثمة ترجمة لاتينية للرسالة قام بها بيكو دي لاميراندولا Pico de la Mirandola ، لكنها لم تُترجم من العربية مباشرة ، وإنما تُرجمت من الترجمة العبرية”.[7]
لم تذكر الدراسات الأوربية الحديثة شيئا عن العنوان الذي وضعه المترجم العبري. لكن الشاهد في هذا الاقتباس أن (رسالة حي بن يقظان) كانت معروفة لدى الغربيين في القرن الرابع عشر بأكثر من لسان وبأكثر من وسيلة ، في نصها الأصلي باللغة العربية وفي الترجمة العبرية ، وفي الشروح والتعليقات التي كتبت حول الرسالة ، والمخطوطات الكثيرة للرسالة التي لم تسقط من ذاكرة التاريخ . فهذا الاهتمام متعدد الجوانب يدل على أن الرسالة لم تكن مغمورة أو غير مشهورة . يضاف إلى كل أولئك أمران مهمان؛ أولهما أن دولة الأندلس كانت لا تزال باقية على قيد الحياة ، وأن اللغة العربية كانت الأعلى كعبا والأكثر انتشارا على متن القارة الأوربية، يهرع إليها الأدباء والمفكرون والباحثون عن العلم والمعرفة من كل حدب وصوب ؛ لأنها كانت لغة التقدم العلمي والحضاري ، كما شهد بذلك المستعرب الإسباني رامون منندث بيدال ، ومن قبله روجر بيكون[8].
على امتداد القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم تصلنا أي أخبار عن الرسالة، باستثناء المخطوطات التي تضمنت شروحا وتفسيرات للرسالة على هامش الترجمة العبرية. ونحن نعرف الظروف والملابسات السياسية التي كانت تمر بها إسبانيا ، على نحو خاص ، من حيث عدم جاهزيتها لإبراز الاهتمام بأي عمل أدبي عربي ، في ظل محاكم التفتيش التي كانت تناهض كل ما هو عربي.
على أن القرن السابع عشر كان شاهد عيان على ما بلغته رسالة حي بن يقظان من شهرة وانتشار في تتابع زمني رهيب ” وقد ارتبط ذلك بظهور الطبعة الأولى للرسالة عام 1671 على يد المستشرق الإنجليزي إدوارد بوكوك Edward Pococke ؛ إذ نشر النص العربي وأتبعه بترجمة لاتينية تحت عنوان الفيلسوف المعلم نفسه Philosophus Autodidactus “. كانت هذه الترجمة نقطة فاصلة ومرحلة تحول في تاريخ الرسالة لدى الغربيين ؛ إذ أصبحت ، منذ ذلك الحين حتى اليوم تعرف بينهم بهذا الاسم الذي خلعه عليها إدوارد بوكوك . وفضلا عن ذلك كانت هذه الترجمة اللاتينية هي الأصل الذي تُرجمت عنه الرسالة إلى عدد من اللغات الأوربية الأخرى . ففي عام 1672[9] ترجمت الرسالة إلى اللغتين الهولندية والألمانية ، كما صدرت ترجمتان إنجليزيتان للرسالة ، معتمدتين على الترجمة اللاتينية لبوكوك، إحداهما في عام 1674 لجورج كيث Georges Keith ، والثانية في عام 1686 لجورج أشول Georges Ashwell . وثمة ترجمة إنجليزية ثالثة لم تعتمد على الترجمة اللاتينية وإنما على الأصل العربي قام بها سيمون أوكلي عام 1708 وقد جاءت تحت هذا العنوان : The Improvement of Human Reason Exhibited in the Life of Hai Ebn Yokdhan, written in Arabic…by Abu Jafaar Ebn Tophail…Newly translated from the Original Arabic by Simon Ockley .
وفي عام 1700 صدرت طبعة ثانية من الترجمة اللاتينية للرسالة مشتملة على تصويبات وتنقيحات للطبعة الأولى. وقد أضاف المحقق والمترجم بعض الشروح والتعليقات ، إذ ذكر أن هذه الرواية يتجلى من خلالها كيف أن العقل الإنساني ، من خلال تأمله الدقيق الوثيق ، بوسعه أن يعرج من الأشياء الدنيوية إلى أن يصل إلى معرفة الملأ الأعلى”[10]
في عام 1726 ظهرت ترجمة ألمانية في فرانكفورت .وفي عام 1762 ظهرت ترجمة هولندية للرسالة ، في أمستردام ، معتمدة على ترجمة بوكوك اللاتينية.وعلى امتداد السنوات التالية تكاثرت ترجمات الرسالة إلى اللغات الأوربية المختلفة .
وقد شهد عام 1900 ظهور ترجمتين للرسالة باللغتين الفرنسية والإسبانية ، معتمدتين على الأصل العربي ، الأولى نشرت في باريس وقام بها المستشرق الفرنسي ليون جوتييه ، والثانية نشرت في مدينة سرقسطة الإسبانية وقام بها المستشرق الإسباني فرانثيسكو بونز بويجس ، وكتب مقدمتها مرثلينو منندث بلايو. ثم صدرت ترجمة إسبانية جديدة في مدريد عام 1934 قام بها أنخل جونثالث بالنثيا ، وقد استفاد فيها ، بالإضافة إلى اعتماده على الأصل العربي ، من ترجمة ليون جوتييه الفرنسية ، وتعليقات هذا الأخير[11]. وقد خضعت ترجمة أنخل جونثالث بالنثيا لمراجعات وإضافات عن طريق أستاذي إميليو تورنيرو بوبيدا Emilio Tornero لتصدر منها طبعة جديدة في عام 1995. وقد تعددت الترجمات داخل اللغة الواحدة ، ومن بين هذه اللغات ، على سبيل المثال ، اللغة الألمانية واللغة الإنجليزية واللغة الإسبانية .
المرحلة الثانية – أثر رسالة حي بن يقظان في الغرب والشرق:
لا جرم أن تكاثرَ ترجمات رسالة حي بن يقظان إلى لغات كثيرة ، وتعددَ هذه الترجمات ، في محيط اللغة الواحدة ، ليدل على الأهمية البالغة التي يمثلها هذا العملُ العربيُّ الأندلسيُّ ، للإنسان من حيث كونه إنسانا ، بصرف النظر عن لغته وجنسيته وديانته والمرحلة الزمنية التي تظله والمنطقة الجغرافية التي تقله . فكأي من ترجمات ، لا تحرك ساكنا ، يمر عليها الناس عابرين ، ولا يعلم بها أكثر الناس ، أو هم عنها غافلون ، يأتي عليها حين من الدهر تأوي إلى ذمة التاريخ ولا يتردد لها ذكر إلا لدى نزر يسير من الأجيال التالية، بحسبانها جزءا من الماضي يشغل نفرا من المهمومين بالتاريخ دون غيرهم ، في إطار حقل علمي محدد . أما أكثر الناس فلا يكادون يذكرون لها اسما .
وأما رسالة حي بن يقظان ، فليست من هذا القبيل ؛ إذ كانت ، ولا تزال ، من الأعمال الأدبية الشامخة التي تخطت حاجز المحلية إلى الأفق العالمي الواسع الفسيح ، ولم تقنع بالإقامة داخل حدود جغرافية معينة في مرحلة زمنية محددة ، وإنما تخطت الحواجز الجغرافية والتاريخية ، وأصبحت من الأعمال العالمية العابرة للحدود اللغوية والزمنية . ومن ثم فإن ذيوعَ صيت هذه الرسالة ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وتكاثرَ ترجماتها ، على هذا النحو، من شأنه أن يفسح المجال أمام هذا العمل لكي يُقرأ في أكثر من لسان ، ثم يتتابع عليه القراء ، في كل لغة تُرجم إليها ، ينهلون منه ، جيلا بعد جيل.لذلك، فما إن تُرجمت الرسالة من العربية إلى غيرها من اللغات حتى تلقفها الأدباء والعلماء والمفكرون والفلاسفة والمنظرون ، على اختلاف مشاربهم وتنوع اهتماماتهم ، من مختلف الجنسيات،وتفاعلوا معها، فانكبوا على قراءتها والبحث في مبانيها ومعانيها واستشراف غاياتها ومراميها ، وقد أدهشهم أسلوبها الأدبي الساحر وخيالها المجنح الباهر ، وأغرقتهم فصولها بالدلالات الفلسفية والإشراقات الروحية والإيحاءات الأدبية فكان لها شأن لم نُلف له نظيرا في تاريخ الفكر الإنساني.
وما كان لهذه المطالعات أن تمضي في طريقها عبثا دون أن تخلف أثرا أو تترك صدى ، فقد خلفت آثارا عظيمة على الصعيد العالمي ، تجلت في الأدب والفلسفة والتربية. وقد شهد بذلك الضمير العلمي العالمي ، ممثلا في دراسات غربية مختلفة ، انتهت ، بعد بحث وفحص وتدبر ، إلى أن ابن طفيل في كتابه (حي بن يقظان) أول من أثبت النظريات التجريبية من خلال التجربة الفكرية في روايته، إذ صور تطور عقل طفل متوحش “من نعومة أظفاره إلى أن استوى على عوده وبلغ أشده بمعزل شامل كامل عن المجتمع “على متن جزيرة صحراوية… وكان تأثيرُ حي بن يقظان كبيراً في الأدبين العربي والفارسي ، إضافة إلى الآداب الأوروبية المختلفة ، وأصبح أكثرَ الكُتبِ مبيعاً في أوروبا الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر[12].
وأما عن مبلغ تأثيرها على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فيقول محمد غنيمي هلال : “حين عُرفت قصة حي بن يقظان في أوربا ، لقيت حظا رائعا لدى فلاسفتها ، وخصوصا في القرن الثامن عشر ، ثم التاسع عشر. ذلك أن القرن الثامن عشر الأوربي كان يعتقد في مقدرة الإنسان الفطري على الاهتداء إلى الفضائل ، وإلى الأسس السامية التي تفضل الشرائع الإنسانية . وقد راجت الدعوة نفسها لدى الرومانتيكيين في القرن التاسع عشر ، ورأى هؤلاء وأولئك في قصة حي بن يقظان ما يشد أزر دعوتهم ، إذ اهتدى حي فيها إلى ما يتجاوز الشريعة … وإذن كان تأثير قصة حي بن يقظان في الآداب الأوربية تأثيرا كبيرا متنوع الدلالة”[13].
وقد أشار باحثون غربيون إلى الأثر العميق الذي تركته رسالة حي بن يقظان في الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية الحديثة[14] . وقد وصل الأمر بالرسالة إلى أن أصبحت “واحداً من أهم الكتب التي أفرزتها الثورةُ العلمية”، وعصرُ التنوير. وفضلا عن ذلك فإن الأفكار المعبر عنها في الرسالة يمكن متابعتها والاطلاع عليها “في أشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة” في كتب توماس هوبز Thomas Hobbes وجون لوك John Locke وإسحاق نيوتن Isaac Newton، وإيمانويل كانط [15].Immanuel Kant
المرحلة الثالثة- البحث عن أسباب التشابه:
مع مرور الوقت بدأت رسالة حي ابن يقظان ، إلى جانب وجودها في متناول أيدي القراء مترجمة إلى لغات أوربية مختلفة ، تخلفُ آثاراً استوقفت الباحثين والدارسين في حقول معرفية مختلفة، وألفى نفرٌ من المفكرين والمنظرين نظائر لحي بن يقظان في عدد من الأعمال الأدبية والفلسفية والتربوية ، وقد شكلت هذه النظائر ظاهرة لافتة للأنظار ، الأمر الذي تأدى بكثير من الدارسين إلى التوقف أمامها فراحوا يفسرون أسباب هذا التشابه ، هل هو تشابه عارض عابر من قبيل توارد الخواطر ، فرضته الظروف والملابسات ، أم أنه حصاد علاقة قرابة نشأت بين الرسالة والأعمال التالية التي تتشابه معها ، وقد ترتب على وجود هذه العلاقة أن أثرت رسالة حي بن يقظان في هذه الأعمال أو أن هذه الأعمال قد تأثرت بالرسالة؟. ولسوف أقصر حديثي على علاقة الرسالة بالأدب الإسباني ، فحسب ، كما ذكرتُ من قبل.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر ظهر في إسبانيا رواية تحمل عنوان “النقادة”[16] El Criticón للكاتب الإسباني بلتسار جراثيان Baltasar Gracián ، وهي ثلاثية ، صدرت أجزاؤها في الفترة الواقعة بين عامي 1651 و1657 ، حيث نُشر الجزء الأول عام 1651 والجزء الثاني ظهر عام 1653 وأما الجزء الثالث والأخير فقد صدر في عام 1657. وقد وضع النقاد هذه الثلاثية على قمة الأدب الإسباني[17] ، في كل العصور ، مع عملين آخرين هما دون كيخوتي دي لا منشا ولاثلستينا La Celestina.
اتخذ جراثيان من الرمز قناعا للإحاطة الشاملة الكاملة بحياة الإنسان، من خلال شخصيتين تمثلان نمطين مختلفين للإنسان ؛ إحداهما شخصية أندرنيو Andrenio بعفويتها وعذريتها وافتقارها إلى التجارب التي يكتسبها الإنسان في مجتمع من الناس يتبادل معهم التجارب والخبرات ومفردات التأثير والتأثر. وأما الشخصية الثانية فهي شخصية كريتيلو Critilo ، برصيدها الزاخر من الخبرات والتجارب المجتمعية. وقد كانت هذه الرواية بمثابة الوعاء الذي احتضن رؤية جراثيان الفلسفية للعالم ، عن طريق شكل من أشكال الملاحم الأخلاقية الكبرى . وقد جمعت هذه الرواية بين الإبداع والتربية والعلم والأسلوب الشخصي وخيبة الأمل والهجاء الاجتماعي.
تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية كريتيلو الذي نجا من الغرق، وهو رجل قد عجنته التجارب والخبرات ، فألقت به الأمواج على شواطيء جزيرة سانتا إلينا Santa Elena ، حيث تعرف إلى أندرنيو ، الذي كان يحيا حياة طبيعية بدائية وحيدا على متن الجزيرة ، في عزلة شاملة كاملة عن كل أشكال الحضارة الإنسانية ، وقد ربته الوحوش وتعهدته بالرعاية والعناية مذ كان طفلا رضيعا إلى أن استوى على عوده وبلغ أشده ، فعلَّمه كريتيلو الكلام. وما إن استطاع أندرنيو الكلام حتى روى لكريتيلو كيف وُلد في كهفٍ مغلق وفي أعقاب زلزال ضرب الجزيرة رأى النور وجمال الطبيعة ، موقنا أن ذا من شأنه أن يكون عملا من أعمال الصانع الأعظم. وإذ أنقذتهما سفينة إسبانية يبدآن معا رحلة رمزية طويلة عبر مراحل مختلفة في بلاط إسبانيا ، وأراغون ، وفرنسا ، وروما ، وهما يستهدفان البحث عن Felisinda الزوجة المبتغاة لكريتيلو وأم أندرنيو (وهي رمز السعادة) ، ليصلا في نهاية حياتهما إلى جزيرة الخلود والأبدية.
في الجزء الأول ، من هذه الثلاثية ، الذي يحمل عنوانا فرعيا هو “في ربيع الطفولة وصيف الشباب” «En la primavera de la niñez y en el estío de la juventud», ، يلتقي كل من كريتيلو وأندرنيو ، ويتبادلان أطراف الحديث حول التحولات الحياتية التي تأدت بهما إلى أن يجتمعا على متن جزيرة سانتا إلينا ، ويشرعان في السفر معا إلى إسبانيا.
وفي الجزء الثاني الذي يحمل عنوان “حكمة الفلسفة الراشدة في خريف رجولة العمر” «Juiciosa cortesana filosofía en el otoño de la varonil edad», ، تمضي بهما الأحداث في أراضي منطقة أراغون وفرنسا. وفي الجزء الثالث الذي جاء تحت عنوان “في شتاء الشيخوخة” «En el invierno de la vejez» يمران عبر الأراضي الشمالية لألمانيا ، وينتهي بهما المطاف عند مكة المسيحية التي تهفو إليها نفوس الحجيج من النصارى ، وهي روما ، ليهتف بهما ناعب الموت وليصلا إلى الأبدية والخلود.
كشف جراثيان نفسُه عن بعض مصادره ، وذلك في المقدمة التي كتبها للنقادة والتي جاءت تحت عنوان “إلى من يقرأ” ، إذ ذكر فيها : “حاولت أن أزاوج بين جفافية الفلسفة وذهنيتها وترويح الإبداع ومرونته ، وبين لذع الهجاء وعذوبة الملحمة (…) ودائما ما كنت أحاكي ما يعجبني لدى كل واحد من أصحاب العبقريات الفذة : فقد أعجبتني رمزية هوميروس ، وخيالات إيسوب ومذهبية سينيكا، وحكمة لوثيانو، وبراعة الوصف عند أبوليوس، وأخلاقيات بلوتارك، ورزانة هيلوديرو، وتعليقات أريوستو وأزمات بوكلينو، ولذع كتابات باركلايو”[18] ولكنه لم يشر إلى أي عمل مصوغ باللغة العربية ، على الرغم من أن اللغة العربية كانت لغة التقدم العلمي والأدبي والحضاري على متن القارة الأوربية، كما أشار إلى ذلك رامون منندث بيدال وروجر بيكون . وقد أثبت المستشرق الفرنسي فكتور شوفان أن كبار أعلام الأدب في أوربا مدينون للأدب العربي في الأندلس بنصيب كبير. فكيف لبلتسار جراثيان أن يتجاهل المصنفات الأدبية العربية التي كانت ملء السمع وملء البصر ، ويأتي في صدارتها رسالة حي بن يقظان.؟! وسيكون تجاهل جراثيان الإشارة إلى رسالة حي بن يقظان دافعا لنفر من الباحثين الإسبان ، في القرن العشرين ، لإنكار علاقة تأثره بالرسالة ، كما سنرى فيما بعد .
تاريخ الموضوع ونظرية التأثير:
في القرن السابع عشر ألفى الباحثون ضروبا من التشابه بين الفصول الأولى للنقادة ، وما يناظرها من رسالة ابن طفيل ، وقد تجلى ذلك ، لأول مرة، من خلال الترجمة الإنجليزية للنقادة ، التي قام بها بول ريكوت Paul Rycaut عام 1681[19] . وفي مرحلة لاحقة ، في القرن الثامن عشر ، وتحديدا في عام 1763 لاحظ الأب اليسوعي الإسباني بارتولوميه بو P. Bartolomé Pou، أستاذ الفلسفة في المدرسة اليسوعية بقلعة أيوب ، أن ثمة تشابها لا تخطئه العين بين الفصول الأولى من “النقادة” لبلتسار جراثيان ، وكتاب ابن طفيل “رسالة حي بن يقظان” ، الذي ترجمه إلى اللاتينية بوكوك الإنجليزي ، تحت عنوان “الفيلسوف المعلم نفسه” عام 1671.
مع مرور الوقت ، ما كان ، من حيث البدء شكوكا تساور الأب اليسوعي بارتولوميه ، أضحى شبه حقيقة لا تقبل الجدل ؛ إذ رأى بين العملين علاقة النموذج بالمقلد.
ففي إسبانيا وفي اللحظات التي كان القرن التاسع عشر يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة ظهرت أوفى دراسة كتبت حول الرسالة ، في اللغات الأوربية، حتى ذلك الوقت ، وهي المقدمة التي كتبها مرثلينو منندث بلايو لأول ترجمة إسبانية لرسالة حي بن يقظان من العربية مباشرة . وهي ترجمة فرانثيسكو بونز إي بويجس التي نُشرت في مدينة سرقسطة الإسبانية عام 1900. جاءت الدراسة تحت عنوان “الفيلسوف المعلم نفسه لابن طفيل” El filósofo autodidacto, de Abentofail وقد تحدث فيها مرثلينو منندث بلايو ، بإسهاب عن الأهمية التي تمثلها رسالة حي بن يقظان في تاريخ الأدب والفكر الأندلسي، وحلل ، بإسهاب، دلالاتها ومقاصدها الفلسفية والتربوية وعلاقتها بالدين ، ناظرا إليها في محيطها العربي والإسلامي ، محددا موقعها على خريطة الفكر الإنساني العالمية ، بين الفلسفتين الشرقية والغربية ، إضافة إلى الفلسفات القديمة ، وعلى نحو خاص الفلسفة اليونانية.
افتتح مرثلينو منندث بلايو دراسته بقوله: “لإحياء ذكرى المستعرب الراحل فرانثيسكو بونز إي بويجس ، الذي كان مفتونا بالعلم والحياة، في أزهى سنوات عمره ، لم يكن في الذرع تخيل المودة التي يكنها له أصدقاؤه وأساتذته وتلاميذه بطريقة أفضل من طباعة المجلد الراهن قربانا لهذه المودة . وهذا المجلد يتضمن ترجمة بونز إي بويجس للعمل الفلسفي الأكثر أصالة والأكبر عمقا في الأدب الأندلسي . قصدت بذلك الرواية الفلسفية الأندلسية الشهيرة التي ألفها ابن طفيل ، وهي رواية حي بن يقظان ، المعروفة على نطاق واسع لدى الغربيين باسم الفيلسوف المعلم نفسه”[20].
وقد نعى مرثلينو منندث بلايو على الإسبان تأخرهم في ترجمة رائعة ابن طفيل إلى اللغة الإسبانية حتى بدايات القرن العشرين ؛ إذ كان حقيقا بهم أن يكونوا أول المبادرين بنقل رسالة حي بن يقظان إلى لغتهم قبل غيرهم ، يظاهرهم في ذلك حق تاريخي مؤداه أن ابن طفيل مؤلف الرسالة قد ولد على أرض إسبانيا وأمضى عمره على متنها وحبَّر رسالته في رحابها. ومن ثم فقد أصبح جزءا من التراث الأدبي والفلسفي للإسبان . وفي هذا الصدد يقول مرثلينو منندث بلايو:” عارٌ على إسبانيا ، في واقع الأمر ، وهي الأم التي أنجبت هذا المفكر ذائع الصيت ، ألا تمتلك ترجمة إسبانية حتى الآن لهذا الكتاب الشهير للغاية ؛ ذلك أن الكتاب تُرجم للغة العبرية في القرن الرابع عشر عن طريق موسى النربوني ، وقد استطاع الغربيون مطالعة هذا الكتاب من خلال عدد من الترجمات للغات الأوربية ؛ من خلال الترجمة اللاتينية التي قام بها إدوارد بوكوك ، ومن خلال ثلاث ترجمات للغة الإنجليزية ( إحداها كانت ذات شعبية واسعة وكانت تستهدف الوعظ وتوعية الناس ، وهي الترجمة التي كانت متداولة بين جماعة الكويكرز ، وقام بها جورج كيث). وثمة ترجمتان ألمانيتان ، إحداهما بقلم العلامة إيشهورن عام 1783 . كما أن الكتاب كان مترجما للهولندية . قرأ الغربيون الكتاب في هذه الترجمات ، وربما في ترجمات للغات أخرى ، لكنها لم تصل إلى مسامعنا. إن هو إلا كتاب قد طبقت شهرته الآفاق ، من حيث كونه مفخرة من مفاخر الفلسفة ، وقد حظي مرات عديدة بتحليلات وشروح وتعليقات ، ليس بين المستعربين فحسب ، وإنما من قبل حشود هائلة من المهمومين بتاريخ الفكر الإنساني ، وقد وصفه رينان Renán بأنه “ربما كان الكتاب الواحد الوحيد من كتب الفلسفة الشرقية الذي يقدم لنا اليوم اهتماما ليس إلى نفاده من سبيل”. ومن ثم فهو حقيق أن يعود إلى وطن مؤلفه في زي إسباني قشيب”[21] .
وإذا كان مرثلينو منندث بلايو قد نعى على الإسبان تأخرهم ، عن شعوب غربية أخرى ، في ترجمة رسالة حي بن يقظان إلى اللغة الإسبانية ، فإنه عاد ليرى في هذا التأخر ميزة حالت دون أن يلجأ المترجمون الإسبان إلى ترجمة وسيطة . وفي ذلك يقول: “على أن تأخر الترجمة للإسبانية ردحا كبيرا من الزمن كان فرصة حقيقية لكي يضطلع بها من العربية مباشرة ، بدلا من اللجوء إلى ترجمة غير مباشرة عن طريق لغة وسيطة ، كما حدث في حالات أخرى ، مستعربٌ حقيقيٌّ ، بدأ نشاطه العلمي في حقل الدراسات الفلسفية ، وتعمق تعمقا كبيرا في فكر ابن طفيل ، وكان قادرا على إعادة إنتاجه ، ليس بأدوات فنية حقيقية ووضوح تام فحسب ، وإنما بأناقة وحيوية”.[22]
وبعد أن طاف مرثلينو مننث بلايو بما تضمنته الرسالة من أفكار ودلالات وآراء انتهى إلى أن: “حي بن يقظان لابن طفيل إن هو إلا رمز للبشرية جمعاء ، في سعيها نحو المثل الأعلى والفتوحات العلمية” [23] . لم يقتصر نظر مرثلينو منندث بلايو في الرسالة على الجانب المضموني فحسب ، وإنما ، بالإضافة إلى ذلك ، أرهف السمع للقالب الذي جاءت الرسالة مصوغة فيه ، فقال: “على أن الشكل الأدبي الذي تجلت من خلاله رسالة حي بن يقظان ليس بأقل أهمية مما اشتملت عليه الرسالة من محتوى فائق ؛ إذ بوسعنا أن نطلق على هذا الشكل الذي قدمه ابن طفيل روبنسن الميتافيزيقي”[24].
وفيما يخص التشابه الذي لفت نظر الباحثين على امتداد القرنين السابع عشر والثامن ، بين رسالة حي بن يقظان والفصول الأولى من النقادة لبلتسار جراثيان خصص مرثلينو منندث بلايو جانبا من دراسته للكلام في هذه الناحية ، فقال : “لا يمكن القول أن وطن ابن طفيل قد نسيه تماما . وإذا سلمنا بأنه نسيه ، ينبغي أن نفترض أنه عاد لاكتشافه في القرن السابع عشر ، أو للتنبؤ بكتابه. وهو أمر من شأنه أن يدنو مما هو خارق. وبالنسبة لي ، على أقل تقدير ، فليس لهذا من تفسير مقبول. اقرأوا الفصول الأولى من النقادة لبلتسار جراثيان ، حيث يُلفي الغريق كريتيلو ، في جزيرة سانتا إلينا ، أندرنيو، ابنَ الطبيعة ، المتفلسفَ على طريقته هو ، لكنه تربى دون معاشرة كائنات عاقلة ، ودون اتصال بها . وسوف يُلاحظ وجود تشابه كبير للغاية [ بين هذه الفصول ] وبين قصة حي بن يقظان ، إلى الحد الذي يمكن الاعتقاد معه ، بكثير من الجهد ، بأننا بإزاء مجرد توارد خواطر”.
ثم ينقل منندث بلايو مشاهد من الرواية من شأنها أن تستدعي شواهد مماثلة من الرسالة: ” يقول أندرنيو: المرة الأولى التي عَرفتُني فيها ، واستطعتُ أن أكوِّن فكرة عن نفسي ، كانت عندما ألفيتُني سجينا داخل أحشاء ذلك الجبل … هناك وفرت لي قوتي الأولى واحدة من تلك التي تُطلق عليها اسم حيوانات مفترسة.. لقد نشأتُ بين صغارها الذين كانوا بالنسبة لي بمثابة الأشقاء ، فكنتُ كائنا متوحشا بين كائنات متوحشة ، ألعب معها وأنام بينها. كانت تعولني وترضعني ، وتقتسم معي الصيد والفاكهة التي كنت أجلبها . لم أكن أشعر كثيرا ، في البداية ، بتلك العزلة الأليمة عن العالم ، ومع الظلمة الداخلية للروح كنتُ الدياجير الخارجية للبدن، ومن جراء عدم المعرفة كنت أخفي الافتقار إلى النور . وعلى الرغم من أنني أحيانا كنت أتنبأ بومضات غامضة ، كنت أعذر السماء في أوقات محددة ، على أقصى تقدير ، في تلك المغارة التعيسة”[25].
“لكن عند بلوغ مدى معين من النمو والعيش ، انقدح في ذهني ، بغتةً، رغبةٌ جامحةٌ للمعرفة ، دفقةٌ هائلةٌ للغاية من النور ومن اليقظة ، أعادتني إليَّ، وبدأتُ أتعرف على ذاتي ، متأملا كرةً وكرةً في كينونتي الذاتية. كنت أقول : ما هذا ؟ أأنا هذا أم لستُ أنا؟ لكنني إذن أحيا ، وإذن أعرف وألاحظ ، ولي وجود. [ لاحظ بين قوسين تشابه هذا التفكير المنطقي مع ذلك الاستدلال الذي هو بمثابة قاعدة للمنهج الكارستيانو] من أنا؟ ومن الذي أعطاني هذه الكينونة؟ ولماذا أعطانيها؟”[26]
“بدأت تنمو كل يوم الرغبة في الخروج من هناك ، محاولة الرؤية والمعرفة. إذا كان كل شيء طبيعيا وكبيرا بداخلي ، بوصفي منتهَكاً ، لا يُطاق ، لكن أكثر ما كان يؤلمني ويعذبني رؤيةُ تلك الكائنات المتوحشة زميلاتي ، تتسلق تلك الجدران المشئومة ، بخفة غريبة ، وتدخل وتخرج بحرية تامة كلما أرادت ، في حين أن هذه الأشياء كانت ، بالنسبة لي ، صعبة المنال ، مع شعور بالمساواة في الاعتدال والتوازن تنكره عليَّ ، فحسب ، تلك العطية الكبيرة من الحرية “[27].
“حاولت مرات عديدة متابعة تلك الحيوانات المتوحشة ، خامشاً الصخور المرتفعة التي من شأنها أن تلين مع الدم الذي يجري في عروق أصابعي ، وعاضا عليها بنواجذي ، لكن دون جدوى ، مع ضرر ، وقد أصبح مؤكدا وقوعي في تلك التربة ، مرتويا بدموعي ومخضبا بدمي … يا لها من مناجاة داخيلة ، حتى هذا التخفيف من خلال الحديث الخارجي يعوزني! يا لها من صعوبات وشكوك تحول بين ما إذا كانت ملاحظتي وفضولي ، وكلها كانت تحل في مظاهر الإعجاب ومواطن العذاب !
كانت الضوضاء المختلطة لهذه البحار ، والتي كانت أمواجها تحطم قلبي أكثر من تلك الصخور – كان كل أولئك عذابا مكرورا بالنسبة لي!”
في النهاية وقع زلزال رهيب ، مدمرا الكهف الذي آواه ، وحرره من سجنه المظلم ، ووضعه أمام مسرح الكون الكبير ، الذي تفلسف حوله فلسفة طويلة ورائعة.
من خلال هذه الشواهد – وغيرها – انتهى مرثلينو منندث بلايو إلى أن التشابه البين بين الفصول الأولى للرواية ورسالة حي بن يقظان لا يمكن أن يأتي عفو الخاطر ، ولا مجرد توارد خواطر ، ومن ثم فالتفسير الوحيد له أن بين العملين العربي والإسباني علاقة محاكاة ، تأثر من خلالها بلتسار جراثيان بابن طفيل.
وفي فرنسا في العام نفسه الذي نُشرت فيه أول ترجمة إسبانية ، عن العربية ، لرسالة ابن طفيل ، نشرالمستعرب الفرنسي ليون جوتييه León Gauthier ، الترجمة الفرنسية لرسالة حي بن يقظان ( عام 1900) ، اعتمادا على مخطوطةٍ جديدةٍ للرسالةِ ، عثر عليها في الجزائر. بعد ذلك بعدة أعوام ، وتحديدا في عام 1909 نشر جوتييه بحثاً عن ابن طفيل، وقد عاد فيه ليؤكد بإصرار أن “الجزء الأول كُلَّه من رواية النقادةِ ، إنْ هو إلا محاكاةٌ واضحةٌ لحيِّ بنِ يقظان”. وأضاف أن “نسبةَ التشابه الموجود بين العملين إلى تواردِ الخواطر، ليست إلا فرضيةً كسولا أو هي حيلة العاجز، ونحن لن نسلم بها أبدا”[28].
لم يكن ليون جوتييه وحده ، في فرنسا ، الذي آمن بنظرية تأثير الرسالة في رواية النقادة ، فقد ظاهر هذه النظرية مواطنه ألفونسو كوستر ، وهو متخصص في الأدب الإسباني بصفة عامة وفي بلتسار جراثيان على نحو خاص ، وقد اقتفى أثر منندث بلايو ، بطريقة شبه حرفية، فقد تحدث في عام 1913 عن أننا بصدد “ضربٍ من التشابهِ بين العملين ، من الناحية الواقعية ، ليس إلى دحضه من سبيل. كما أن نقطة الانطلاق في رسالة حي بن يقظان من شأنها أن تقفنا على تشابه غريب مع الفكرة المركزية في النقادة”[29].
وقد اصطف إلى جانب أصحاب نظرية تأثير الرسالة في الرواية المستعرب الإسباني ميجيل آسين بلاثيوس ؛ إذ ذكر صراحة في عام 1924 : “لا أحد يحاج في المحاكاة التي اصطنعها بلتسار جراثيان بشأن بطله أندرنيو ، التي حاكى من خلالها رواية الفيلسوف ابن طفيل حي بن يقظان … فالتماثلات بين شخصية أندرنيو والرواية العربية ليس إلى دحضها من سبيل ، وفعل المحاكاة حقيقة لا تقبل الجدل”[30].
هذا رأي القائلين بتأثير رسالة حي بن يقظان في النقادة ، وتجلي هذا التأثير في الفصول الأولى من العمل الأخير المكتوب بالإسبانية.
غرثية غومث وتغيير الاتجاه:
ظلت نظرية تأثير رسالة حي بن يقظان في رواية النقادة مهيمنة على الأجواء الثقافية ، تحلق وحدها في سماء البحث العلمي ، ولا تزاحمها نظرية أخرى ، منذ أواخر القرن السابع عشر حتى أواسط العقد الثالث من القرن العشرين ، تعتمد مرجعيتها على التشابه اللافت للأنظار بين العملين اللذين كتب أحدهما بالعربية وثانيهما بالإسبانية ، في منطقة جغرافية واحدة ، ويفصل بينهما حوالي خمسة قرون من عمر الزمن. وإعمالا لقانون الأدب المقارن ، بالمفهوم الفرنسي ، وقانون حقوق الملكية الفكرية[31] ، فإن الأقدم منهما تاريخيا ، وهو رسالة حي بن يقظان ، من شأنه أن يكون الأصل ، في حين أن المتأخر تاريخيا ، وهو رواية النقادة ، سيكون أثرا لسلفه وصدى له.
استقرت الأوضاع على هذا النحو ، وبدت الصورة أشبه بضفتي نهر على كل واحدة منهما بناية، والبنايتان تتشابهان تشابها قويا ، ولا يوجد بينهما جسر يعبر عليه الناس من ضفة إلى أخرى. و لم تكن ثمة نية لاستئناف البحث حول هوية العلاقة بين رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة ، في ظل غيبة الجسر التاريخي الحقيقي الذي يربط بينهما والذي من شأنه أن يحدد كيف وصلت الرسالة لجراثيان ، وفي ظل عدم الاهتداء إلى براهين يقينية من شأنها أن تؤكد تبعية بلتسار جراثيان لابن طفيل ، أو تشكك في مصداقيتها. لكن منذ أواسط العقد الثالث من القرن العشرين بدأت تلوح في الأفق معلومات جديدة من شأنها أن تغير مسار القضية ، وتهز عرش نظرية التأثير ، وتلقي شكوكا حول أصالة ابن طفيل في رسالة حي بن يقظان . مناسبةٌ عابرةٌ هي التي أبرزت المعلومات الجديدة وأخرجتها من مرقدها وهذه المعلومات هي التي سوف تغير سيناريو الأحداث ، وتعيد النظر في الموضوع كله إلى نقطة الصفر .
الذي حدث هو أن الباحث الإسباني إميليو غرثية غومث كان ينقب في مكتبة دير الإسكوريال عن معلومات جديدة من شأنها أن تساعده في دراسةٍ ، لنيل درجة الدكتوراة ، كان يستهدف إعدادها حول أسطورة الإسكندر الأكبر وتجلياتها في الأدب الأندلسي . إذ ذاك ألفى ، قَدَراً ، في مكتبة دير الإسكوريال ، مخطوطة موريسكية ترجع إلى القرن السادس عشر الميلادي، مجهولة المؤلف، وتتضمن قصتين جاءتا تحت عنوان “قصة ذي القرنين أبي مراثيد الحميري” ، و”قصة الصنم والملك وابنته”. وقد لفت نظره أن هذه القصة الأخيرة تتشابه تشابها كبيرا مع كل من رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة ، فقرر أن يتخذها موضوعا لرسالته للدكتوراة التي جاءت تحت عنوان “قصة عربية مصدر مشترك لابن طفيل وجراثيان” Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián
بدأ إميليو غرثية غومث كلامه متحدثا عن أهمية رسالة حي بن يقظان من حيث كونها أحد الأعمال الأدبية الكبرى التي بلغت مبلغا عظيما من الخيال ، وقد جاءت ضمن سلسة من أعمال أدبية تتضمن مغامرات خيالية للذين ساقتهم أقدارهم إلى أن تتقاذفهم الأمواج العاتية وهم في سن الرضاعة إلى أن ألقت بهم على سواحل جزر نائية منعزلة غير مأهولة بالسكان الآدميين، ولكنها ، وقد خلت من أي مظهر من مظاهر الوجود البشري ، كانت تقل على متنها عوالم من حيوانات الغابة . وهي تمجد الفطرة الإنسانية النقية التي فطر الله الناس عليها ، وتبشر بالعودة إلى تطبيع العلاقات الإنسانية مع الطبيعة ، لتنقية الإنسان من الأدران التي علقت به من مفاسد الحياة الاجتماعية.” فنحن مع الفيلسوف المعلم نفسه بإزاء آدم الثاني، الذي خُلق بمعجزة عجيبة ، وبمعزل عن كل قيد اجتماعي أطلق لنفسه العنان ، في التفكر والتدبر أمام قضية الخلق”[32] . ثم يشير ، في هذا الصدد ، إلى ما استقر في الأوساط العلمية والدوائر الأكاديمية ، داخل إسبانيا وخارجها حول أصالة ابن طفيل في مؤلفه رسالة حي بن يقظان ، منوها برأي ثلاثة من كبار المفكرين الأوربيين، وهم مرثلينو منندث بلايو ، وشوبنهاور ، وليون جوتييه. أما الأول فقد وصف الرسالة بأنها ” أكثر الأعمال الأدبية عمقا وأكبرها أصالة في الأدب العربي الأندلسي. وقد ساد اعتقاد حتى الآن بأن موضوع هذه الرسالة يُعالج على هذا النحو للمرة الأولى”. وأما الثاني ، وهو شوبنهاور ، فقد عد رواية النقادة لبلتسار جراثيان “واحدا من أوائل الكتب في تاريخ الإنسانية،من حيث تناولها في فصولها الأولى للقضية ذاتها التي كان قد تناولها ابن طفيل”. وأما الثالث ، وهو ليون جوتييه ، فبعد دراسات علمية مطولة على امتداد عشرات السنين لابن طفيل وتراثه الأدبي والفكري ، بصفة عامة ، ورسالة حي بن يقظان، على نحو خاص ، انتهى إلى تأكيد النتيجة ذاتها التي اهتدى إليها كل من مرثلينو منندث بلايو وشوبنهاور ، بشأن أصالة ابن طفيل في كتابه رسالة حي بن يقظان. وقد صرح جوتييه أن ابن طفيل نادرا ما كان يأخذ من أسلافه الأولين.[33]
وعلى النقيض من ذلك ذكر المستشرق الفرنسي كارَّا دي فو في دراسة له صدرت عام 1923 أن أصالة ابن طفيل ليست بالصلابة والرسوخ الذي آمن به جوتييه وأصحاب هذا الطراز ، وإنما هي أمر شديد الهشاشة وقضية قابلة للنقاش لم تصل بعد إلى درجة اليقين المطلق.[34] وكأني بغرثية غومث قد وجد ضالته في كلام كارَّا دي فو الذي يشكك في أصالة ابن طفيل ، رغبة في أن يدفع عن مواطنه الإسباني بلتسار جراثيان شبهة أنه استفاد من الفيلسوف الأندلسي .
وقد أشار الطاهر أحمد مكي في هذا الصدد إلى أن النتائج التي توصل إليها ليون جوتييه ، التي خلع بموجبها عن جراثيان الإسباني رداء الأصالة وخلعه على ابن طفيل ، أثارت ثائرة إميليو غرثية غومث “وبين المثقفين الفرنسيين والإسبان حساسية شديدة ، ذات أصول بعيدة تعود في مجملها إلى أسباب سياسية وتنافسية ، فكتب مقالا عام 1926 أثبت فيه أن كتاب النقادة أقرب إلى قصة الصنم منه إلى رسالة حي بن يقظان ، محاولا نزع أي ثقة في آراء جوتييه”[35].
سؤالان جوهريان:
بدأ إميليو غرثية غومث دراسته بداية سردية هادئة ، لافتا الأنظار إلى أن الموضوعات الأدبية الكبرى من شأنها أن تطرح تساؤلات مهمة وتفجر قضايا كبرى. ومن ثم فرسالة حي بن يقظان التي بلغت مبلغا عظيما من الروعة والإتقان ، إذ تتناول واحدا من هذه الموضوعات، تطرح على مائدة البحث اثنتين من هذه القضايا على جانب كبير من الأهمية ؛ أولاهما تلك القضية المتعلقة بمصادر رسالة حي بن يقظان، هل نشأت هذه الرسالة في فراغ ، ووُلدت من العدم بغير أبوين ، وكانت جديدة جدة مطلقة أم أنها متأثرة بأعمال سابقة عليها؟ وأما القضية الثانية ، فهي قضية العلاقة بين رسالة حي بن يقظان لابن طفيل ورواية النقادة لبلتسار جراثيان: هل نشأت علاقة قرابة بينهما أثمرت مظهرا من مظاهر التأثير والتأثر بينهما ، أم أن ما ساد بين الدارسين لفترة طويلة من الزمن بشأن محاكاة جراثيان لابن طفيل إن هو إلا أضغاث أحلام؟!
فيما يخص القضية الأولى خلعت الدراسات الأوربية ، قبل إميليو غرثية غومث ،باستثناء رأي الفرنسي كارا دي فو ، على عمل ابن طفيل رداء الأصالة ؛ إذ لم يلف أصحابُها مصدرا جوهريا اعتمد عليه ابن طفيل في بناء رائعته “رسالة حي بن يقظان”. وأما فيما يتعلق بالقضية الثانية الخاصة بهوية العلاقة بين عمل ابن طفيل وعمل بلتسار جراثيان ، فثمة إجماع على تأثر رواية النقادة ، في فصولها الأولى، برسالة حي بن يقظان ، اعتمادا على وجوه الشبه القوية بين العملين.
وقد رأي غرثية غومث أن النتائج التي أدلى بها الباحثون قبله جاءت كلها في ظل غيبة شاملة كاملة لمعلومات مؤكدة وبراهين دامغة من شأنها أن ترسخ أصالة ابن طفيل أو تنفيها. ومن ثم فإن “الافتقار إلى أدلة يقينية ، حتى الآن ، دائما ما كان يتأدى بالباحثين إلى إغلاق النظر في القضية بطرح علامة استفهام كبيرة حول موضوع في غاية الخطورة يتعلق بمصادر الرواية الفلسفية الأندلسية المدهشة”[36].
بخصوص القضية الثانية يشير غرثية غومث إلى الشواهد التي قادت خطى الدارسين قبله إلى الإقرار بوجود علاقة تأثير وتأثر بين الرسالة والرواية. وفي هذا الصدد يقول المستعرب الإسباني: “على أن الأكثر أهمية هو قضية العلاقة بين الرواية العربية لابن طفيل والفصول الأولى من رواية النقادة لبلتسار جراثيان . فالتشابه المذهل بينهما استرعى نظر الأب اليسوعي برتولوميه بو ، في القرن الثامن عشر ، وحلله ، بعد ذلك ، منندث إي بلايو في المقدمة التي كتبها للترجمة الإسبانية التي اضطلع بها بونز بويجس – هذا التشابه ، من وجهة نظر كثيرين ممن أهمتهم القضية لاحقا ، دليلٌ دامغٌ على أن بين العملين علاقةَ الصورةِ بالنموذجِ المُحتَذَى”[37]
ثم يتساءل إميليو غرثية غومث عن الكيفية التي بموجبها انتقلت التأثيرات من رسالة ابن طفيل إلى رواية بلتسار جراثيان ، وهو سؤال لم تتصدى أي دراسة سابقة للإجابة عليه ولم تك تملك إجابة عليه ؛ نظرا للافتقار إلى أدلة يقينية حول وسيلة الاتصال بين الطرفين. “لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : كيف استطاعت رسالة حي بن يقظان أن تصل إلى مسامع اليسوعي الأراغوني الكبير إذا كانت الطبعة الأولى للنص الأصلي ومعها الترجمة اللاتينية الأولى التي قدمها بوكوك (1671) لم تر النور إلا بعد صدور الطبعة الأولى من الجزء الأول من النقادة بعشرين عاما (1651) ؟ بمجرد البرهنة على المحاكاة ، فإن إقامة دليل على الكيفية التي جرت بها المحاكاة ، أو العثور على وسيلة الاتصال بالنص المُحاكَى ، إن هي إلا مشكلة مختلفة بشكل مطلق ، ومن ثم فنحن بإزاء أمر لا يتعلق بحال من الأحوال بالمشكلة الأولى [ الخاصة بمصادر ابن طفيل]”[38].
الافتقار إلى وسيلة الاتصال بين ابن طفيل وبلتسار جراثيان ، فضلا عن ظهور النص الأصلي مطبوعا للمرة الأولى للرواية العربية مصحوبا بأقدم ترجمة لاتينية له ، بعد ظهور رواية بلتسار جراثيان وانتشارها بين الأوربيين بفارق زمني يصل إلى عشرين عاما – كل أولئك من شأنه يثير الشكوك حول نظرية تأثر جراثيان بابن طفيل ، هذا إذا كانت اللغة اللاتينية هي النافذة الوحيدة للاتصال بين العملين. وهذا ما يعول عليه غرثية غومث لإثبات بطلان نظرية التأثير.فإذا كان الإقرار” بالتأثيرات العربية في ثقافة العصور الوسطى التي ليس إلى نكرانها من سبيل ، من شأنه أن يواجه بصعوبات ، عندما كانت كلتا الحضارتين تتعايشان معا تعايشا حميما ، عندما وصلت الحضارة الإسلامية إلى مدى من الإتقان والصقل ، لم تبلغه أوربا المثقفة حتى عصر النهضة الأوربية [ إذا كان ذلك كذلك ] فكيف نسلم ، دون أدنى تحفظ، بتأثير الفيلسوف العربي الأندلسي ، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي ، في اليسوعي الأرغوني ، وقد ألفَت فيه التياراتُ الأيديولوجيةُ ترجمانا ثاقب الفكر للثقافة الأوربية في مرحلة ما بعد النهضة الأوربية؟ باختصار ،فإن هذه المشكلة ، شأنها في ذلك شأن سابقتها كانت تنتظر بروز وثائق ومستندات جديدة “[39]
ابن طفيل بين الأصالة والمحاكاة:
وأما فيما يتعلق بالقضية الأولى الخاصة بأصالة رسالة حي بن يقظان من عدمها ، فإن إميليو غرثية غومث يرى أن الوثيقة الجديدة التي اهتدى إليها في دير مكتبة الإسكوريال ، الخاصة “بقصة ذي القرنين أبي مراثيد الحميري” و”قصة الصنم والملك وابنته” ، من شأنها تتصدى للإجابة على السؤال الأول ؛ إذ تحدد المصدر الذي قبس منه ابن طفيل وهو بصدد تأليف رسالة حي بن يقظان. ويتحدث غرثية غومث عن كيفية اهتدائه للمصدر المشار إليه قائلا: “قصدتُ بذلك قصةً ألفيتُها ، قَدَرَا ، في أحد المخطوطات العربية بمكتبة دير الإسكوريال ؛ إذ كنتُ أبحث في المخطوطات العربية عن معلومات جديدة من أجل دراسة موسعة حول أسطورة الإسكندر الأكبر في الأدب الأندلسي ، وهو الموضوع الذي يشغلني في الوقت الراهن. وقد لفتت مطالعتي الأولى للمخطوط نظري إلى أهمية القصة إذ ألفيتُ بها شخصا جديدا من السلسلة النادرة للأشخاص الذين تربوا في أحضان الطبيعة بمعزل عن المجتمع الإنساني. وعلى الفور فإن دراسة متأنية تأدت بي إلى الاقتناع بأنني ألفيتُني أمام المصدر الذي قبس منه ابنُ طفيل الإطار الروائي لرسالته الفلسفية الجوهرية ، التي تتمثل ، كما يقول جوتييه ، في المشكلة الخطيرة التي تستهدف التوفيق بين الدين والفلسفة. تواتر النظرُ إلى عمل ابن طفيل الرائع حتى اليوم بوصفه العمل الذي وصل إلى أعلى درجة من الأصالة ، في ظل الغيبة الشاملة الكاملة لأسلاف واضحة له. لكنني وجدتُ أمام عينيَّ تفسيرا وراثيا له ، في ظل حضور القصة الشعبية المتواضعة ، التي كانت ، دون أدنى شك، النموذج الذي اعتمد عليه ابن طفيل . وعلى الرغم مما وصلت إليه رواية ابن طفيل من جودة وإتقان وما بلغته من روعة تخطف الأبصار في بنائها – أعترف أن العثور على المصدر الذي لا يرقى إليه أدنى شك لواحد من أكثر الأعمال شهرة وأكبرها إثارة للإعجاب في الأدب الأندلسي ، كان ، بالنسبة لي، بمثابة مفاجأة سارة ، وقد خلف في نفسي أكبر قدر من الغبطة والسرور”[40].
وقد كانت هذه الجملة الأخيرة هي نقطة الارتكاز في دراسة إميليو غرثية غومث ، إذ طفق يرددها ، بطول رسالته للدكتوراه ، بأشكال وتعبيرات مختلفة ، ويخلع على “قصة الصنم والملك وابنته” يقينا مطلقا لا يجرؤ الشك أن يقترب منه أو يحوم حوله ، من حيث كونها المصدر الذي أوحى لابن طفيل بكتابة روايته الفلسفية “رسالة حي بن يقظان”. وقد قاده إلى ذلك أنه ألفى وجوها من الشبه بين القصة المذكورة والرسالة . ثم شرع في مواجهة القصة برواية النقادة لبلتسار جراثيان فوجد تماثلات كبيرة بينهما كذلك ربما كانت أكثر من تلك التي ألفاها بين القصة والرسالة .
كانت هذه التشابهات بين الأعمال الثلاثة بمثابة مفاجأة مذهلة لإميليو غرثية غومث تأدت به إلى أن يبني عليها نتائج في منتهى الخطورة ، وذلك إذ يقول : “وقد بلغت هذه المفاجأة أوجها ؛ إذ وجدتُ عند مقارنة القصة المذكورة بالنقادة ، أن التشابهات التي لُوحظت بينهما أكبر بكثير كما وكيفا من تلك التي تجلت بين رواية جراثيان ورسالة حي بن يقظان لابن طفيل ؛ الأمر الذي تأدى بي إلى الوصول إلى نتيجة مؤداها أن هذه القصة المجهولة ، حتى اليوم ، هي المصدر المشترك لكلا العملين . وبمعزل عن التصحيح المهم الذي أسهم به الاكتشاف لدراسة رواية جراثيان ، فإن الوضع الجديد للقضية من شأنه أن يفسر بشكل مقبول ، كما سنرى ، انتقال الموضوع العربي لجراثيان. إنه لنجاحٌ متفردٌ لهذه القصة القصيرة ، التي جمعتها علاقة أخوة بكثير جدا من الحكايات التي تعيش حتى الآن في الآداب الأوربية كلها، أن يتاح لها أن تكون مصدر إلهام لاثنين من أكبر الأعمال في تاريخ الفكر الإسباني كلٍ على حدة ! فقد كانت الأعمال القصصية تشكل نوعا أدبيا يحلق في سماء الإنساينة . ومن ثم كانت هذه القصص هي طيور الأدب الحقيقية المهاجرة”[41].
لقد استهدف إميليو غرثية غومث ، من خلال دراسته ، تحقيق غايتين؛ أولاهما أن يثبت بطلان ما استقر في الأذهان ، قبله ، بشأن أصالة ابن طفيل في “رسالة حي بن يقظان”، والثانية أن يبطل ، في الوقت نفسه ، نظرية تأثر بلتسار جراثيان بابن طفيل ، لينتهي من تحقيق هاتين الغايتين إلى نتيجة مؤداها أن التشابه الذي ألفاه الدارسون بين “رسالة حي بن يقظان” ورواية “النقادة” ، ليس مرده إلى أن مؤلف “الرواية” متأثر بصاحب “الرسالة” ، وإنما ترجع هذه التشابهات ، بين العملين ، إلى أنهما تأثرا بمصدر مشترك يتمثل في قصة الصنم والملك وابنته. وقد أعلن إميليو غرثية غومث عن أهدافه ومقاصده تعبيرا صريحا ، حيث يقول :”في الصفحات التالية نستهدف ، أولا وقبل كل شيء ، التدليل على أن (رسالة حي بن يقظان) لابن طفيل ، والتي لم يكن ثمة سبيل لتحديد أصولها حتى اليوم ، ترتبط بعلاقة لا يتطرق إليها الشك ، مع قصة عربية غير معروفة حتى الآن ، وأن هذه العلاقة الموجودة بينهما إن هي إلا علاقة الصورة بالنموذج المحتذى ، إذ أفسحت هذه القصة الشعبية المجال أمام الإطار الروائي للرواية الفلسفية ؛ كما تستهدف هذه الصفحات ، ثانيا ، البرهنة على أن التماثلات الموجودة بين الفصول الأولى من (النقادة) والرواية الرمزية التي كتبها ابن طفيل أقل بكثير من تلك الماثلة بين (النقادة) و(القصة الشعبية) ، التي من شأنها أن تصبح ، في هذه الحالة ، وبشكل منفصل، مصدرا مشتركا للعملين”[42].
وللوصول إلى الغايتين اللتين استهدفهما قام إميليو غرثية غومث بتحليل “قصة الصنم والملك وابنته”[43]، ثم أبحر في خضم المصنفات الإسلامية حول الفكر الإسلامي التي جاءت سابقة على ابن طفيل ، مبينا علاقة هذا الأخير بغيره من المفكرين والفلاسفة المسلمين المعاصرين له والذين سبقوه[44]. وأتبع ذلك بمقارنة بين “قصة الصنم والملك وابنته” و”رسالة حي بن يقظان”[45] ، موضحا أوجه التشابه بين “القصة” و”الرسالة”. وقد لفت نظري أن غرثية غومث ، في هذه المقارنة ، لم ينظر إلى “رسالة حي بن يقظان” في أصلها العربي ، وإنما اعتمد ، في الشواهد التي أوردها كلها من الرسالة ، على الترجمة الفرنسية التي قام به ليون جوتييه، قناعة منه بأن هذه الترجمة بلغت من الدقة والإتقان مبلغا جعلها أقرب إلى الأصل العربي من غيرها من الترجمات الأخرى. وأخيرا أجرى إميليو غرثية غومث مقارنة بين “قصة الصنم والملك وابنته” والفصول الأولى من رواية “النقادة” لبلتسار جراثيان ، حيث رصد أوجه الشبه بين “القصة” و”الرواية”[46].
ورغبة منه في أن يبطل فكرة “الأصالة” التي استقرت لدى غير واحد ممن سبقه من المفكرين ، داخل إسبانيا وخارجها ، بشأن رسالة حي بن يقظان – قام المستعرب الإسباني بجولة في عدد من المصنفات العربية الإسلامية ، لتوثيق جانب من الأفكار الفلسفية التي تضمنتها الرسالة ، ولإثبات أن ابن طفيل لم يكن مبتدعا لهذه الأفكار ؛ فقد كانت رائجة بين المفكرين المسلمين الذين سبقوه أو عاصروه. ففضلا عن أسماء كثيرة وردت في دراسة غرثية غومث مثل ابن سينا وابن باجة وابن قيم الجوزية والغزالي ، اقتبس المستعرب الإسباني مشاهد من عدد من المصنفات الإسلامية مثل “كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل” لابن قيم الجوزية ، و”كتاب إحياء علوم الدين” للغزالي. كل أولئك للبرهنة على أن عددا من الأفكار التي تناولها ابن طفيل في الرسالة ليست بالجديدة جدة مطلقة على المجتمع الفكري الإسلامي أو الإنساني.
رسالة حي بن يقظان وقصة الصنم والملك وابنته:
وأما عن الشكل الفني الذي تجلت من خلاله هذه الأفكار ، فقد نفى غرثية غومث عن ابن طفيل جانب الأصالة فيه ؛ إذ ذهب إلى أن الفيلسوف الأندلسي استعار هذا القالب الفني من قصة مجهولة المؤلف هي “قصة الصنم والملك وابنته” التي عثر عليها في مخطوطة دير الإسكوريال ، التي أشرنا إليها أكثر من مرة . وللبرهنة على ذلك ، عقد غرثية غومث مقارنة بين رسالة حي بن يقظان والقصة مجهولة المؤلف وهي قصة الصنم والملك وابنته . وقد أحصى المستعرب الإسباني وجوه شبه بين العملين.
موجز القصة:
لكن قبل رؤية بعض وجوه الشبه التي ألفاها إميليو غرثية غومث بين القصة والرسالة ، سأقدم وصفا موجزا للقصة مترجِما ما كتبه المستعرب الإسباني :
جاءت القصة تحت عنوان حكاية ذي القرنين أبي مراثيد الحميري وقصة الصنم والملك وابنته ، ضمن مخطوطة عربية منوعة الموضوعات تحمل رقم 1668 (Casiri, MDCLXIII ) في مكتبة دير الإسكوريال الملكية.
يتضمن القسم الأول من المخطوطة قصصا وحكايات قصيرة ، ويشتمل القسم الثاني منها على قصص الأنبياء.
تبدأ حكايتنا في الورقة الأولى التي حفظت من الضياع والتي تحمل رقم 25a . وقد سبقتها حكاية قصيرة حول ما حدث لرجل مع إبليس حكاية في رجل للذي جرى له مع إبليس بمعنى التوبة. وتلتها حكاية عن حديث شفاعة الأطفال لأرواح آبائهم.
تتألف القصة من جزئين ، طبقا لما يشير إليه عنوانها . الجزء الأول ، وهو حكاية ذي القرنين أبي مراثيد الحميري ، وقد كان بمثابة مقدمة للجزء الثاني ، وهو قصة الصنم والملك وابنته. وسوف نقدم ، هنا ، باقتضاب عرضا موجزا لكل منهما.
تروي المقدمة واحدةً من أكثر المغامرات التي حدثت لذي القرنين من خلال غزواته لكافة أرجاء المعمورة.
فالملك الصعيب ذو المراثيد (الإسكندر الأكبر) الذي كان قد فرض هيمنته وسلطانه على كل ملوك الأرض ، والذي قيض الله له مَلَكَاً ناصحا مستشارا- جاب كل أرجاء العالم ، جزيرة في إثر جزيرة، حتى انتهى به المطاف إلى جزيرة أرين، عند خط الاستواء ، في الكرة الأرضية ، حيث يستوي فيها الليل والنهار ، ولا تتغير فيها فصول العام [ فهي نقطة الاعتدال ، ليس فيها حر ولا برد ولا خريف ولا صيف وليلها ونهارها سواء ، ليس فيها زيادة ولا نقصان إلا كلها زمان واحد].
وبعدما تعجب ذو القرنين من عجائب هذه الجزيرة وغرائبها ، صعد إلى جبل سرنديب ، حيث رأى صنما عظيما ، وعليه كتابة محفورة لم يفهمها. وقد ترجم له هذه الكتابة راهب من المعمرين ؛ حيث صنعوا له سريرا بحبال ورفعوه ، رغبة في أن يقترب من الكتابة المنقوشة. وكانت الكتابة عبارة عن تحد متغطرس من أحد ملوك الجزيرة القدماء الذي وجه دعوة لمن يصل إلى هذه الجزيرة أن يقوم بهدم الصنم إن استطاع إلى ذلك سبيلا. وما هو بمستطيع. فاغتاظ ذو القرنين لذلك ، وبلغ منه الغضب مبلغا عظيما وحاول هدم الصنم قائلا: “أقسمت بمحيي الرميم ومخرج الجنين من العدم لا أقلع من هنا حتى أهدم هذا الصنم وأرده أسفله أعلاه وأمحوه حتى لا يبقى منه أثر”. وحشد لذلك الجند والعتاد.
غير أن هذه المحاولة التي فني من أجلها كثير من المال ، وذهب ضحيتها عدد غير قليل من الرجال ، قد باءت بالفشل، فالصنم الذي صهره بانيه وسبكه من سبعة معادن كان في منعة من كل أذى ، ومن ثم لا يمكن النيل منه . وأخيرا قرر الملك القلوع . وفي اليوم الذي شرعوا فيه في الرحيل ، اكتشف رجال الملك تابوتا من زمرد أخضر وحوله كتابة من الحكم والأقوال المأثورة التي قام الراهب بترجمتها. وقد كان التابوت مملوءا بدنانير من الذهب الأحمر ، وفيه لوح عليه كتابة ، حيث جاء في هذا اللوح أن ذلك المال سيكون تعويضا للملك الذي باءت محاولته لهدم الصنم بالفشل ، وتعويضا عن كل ما أنفقه. وجاء في هذا الكلام نبوءة مؤداها أن ذلك الملك سيموت في غضون سبعة أيام ، بدءا من اليوم الذي يُفتح فيه هذا التابوت.
أمر ذو القرنين بوزن الدنانير الموجودة في التابوت ، ليكتشف أنها ، بالفعل ، عين ما أنفقه ، بلا زيادة ولا نقصان. عندئذ طلب من الراهب أن يروي له قصة الملك الذي شيد هذا الصنم.
الجزء الثاني ، أو القصة بكل ما في الكلمة من معنى ، هو قصة الملك الذي بنى الصنم والتي رواها الراهب على مسامع ذي القرنين:
كان في تلك الجزيرة ملك ذو سطوة وسلطان ، لم يكن على وجه الأرض من هو أكبر منه ، لكنه لم ينجب من نسائه اللاتي بلغن ألفا غير ابنة وحيدة سماها عُمْراً. وكان الملك قد استشار المنجمين الذين بشروه بأن الأميرة ستلد مولودا يكون له شأن عجيب وأمر غريب وخبر ظريف ، وتلده في اجتماع سبعة الدراري . فأمر الملك في الحين ببناء قصر لها ، لا يكون في الدنيا مثله ، ففتح له الأساس وأفرغ فيه من الرصاص وجعل سوره من النحاس وشرفاته من الفضة البيضاء ، على كل شرفة منها طاووس من الذهب الأحمر ، ثم أغلق القصر على الأميرة ومربيتها.
عندما بلغت الأميرة سن الحلم رأت من إحدى نوافذ القصر “شمسا” ابن الوزير ، ومن فرط ولعها به وعشقها له أمرت حاضنتها أن تدخله إلى القصر ، وراودته عن نفسه ، مبددة مخاوفه . وبعد أن أشبعت رغبتها تملكتها حالة من الندم ، فنذرت حياتها للتوبة في صومعة. وفي جو محوط بأكبر قدر من السرية ، وضعت مولودها ، وقد علقت في عنقه حجرا من ياقوت ، كانت قد سرقته من أبيها ، ثم وضعت في قدمه خلخالا من الذهب الأحمر ، ووضعته في تابوت ، ثم جعلته وديعة عند الله ، وألقت به في اليم.
أمر الله الرياح أن تصل بالتابوت إلى جزيرة قفر ، حيث تكفلت ظبية كانت قد فقدت ابنها ، بإرضاع الطفل وتربيته. فلما استوى عليه عقله جعل الطفلُ يتأمل بعمق في المخلوقات الإلهية .
على أن مشهد القسوة الذي كانت تصطنعه بعض الحيوانات تجاه بعضها الآخر ، تأدى به إلى أن يصطنع الحيل وأنواع المكر والدهاء ، فتفرغ لصيد الطيور والحيوانات والأسماك ؛ الأمر الذي تأدى بحيوانات الجزيرة إلى أن تستشير ثعبانا عظيما من المعمرين ، في أمر هذا الوافد الجديد. فما كان من الثعبان الأعظم إلا أن أخبرهم بأن ذلك الكائن هو الإنسان. ومن ثم ينبغي عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا. ومنذ ذلك الحين أصبح الفتى الشاب حاكما بين حيوانات الجزيرة وكائناتها.
وفي غضون ذلك ، فإن الملك ذا القدرة والسلطان ، والد الأميرة ، الذي ظل في جزيرته ، قتل ستة آلاف بين الرجال والنساء ، من أجل استعادة حجر الياقوت الذي اختفى من القصر. ثم انتهى به المطاف إلى أن فقد كل رجاء في استرداد الحجر.
وبعد وفاة الوزير خلفه في الوزارة ابنه شمس هاتك عرض الأميرة. وذات ليلة رأى الملك في منامه الوزير الجديد شمس ، كأنه على سرير ملكه والتاج على رأسه ، والإكليل على جبينه ، وخاتم الملك في إصبعه ، وابنه أمامه وفي عنقه الحجر المذكور. وقد أخبره المنجمون ومفسرو الأحلام أن ذلك الشخص الذي رآه في منامه هو خائنٌ خَانَه في أحب الناس إليه ، وأنه سيكون لابنه شأن من الشأن ، فيأخذ ملكه ، ويقوم على الدنيا ، ويبقى خبره إلى آخر الدهر .
أراد الملك ، عندئذ ، قتل شمس ، لكنه ، من جراء نصيحة وزرائه ، قنع بنفيه من أرضه ، وألقاه في مركب في اليم عريانا.
أمر الله الرياح أن تصل بالمركب إلى الجزيرة التي تقل على متنها ابن الوزير . وبعد التعجب والرهبة المتبادلة من كلا الجانبين بعد لقائهما ، أحس كل واحد منهما داخله برابطة الدم وحنينه. عَلَّمَ الوزيرُ الشابَ الكلامَ ، وجعله يحكي له قصته ، وقد روى له الوزير حكايته كذلك ، ثم ثقَّفه في أصول الدين.
ذات يوم ، وصلت إلى الجزيرة سفينة ضلت طريقها ، رغبة في التزود بالمؤن. طلب الوزير وابنه من طاقم المركب أن يصطحبوهما معهم على متن السفينة . وبعد رحلة إبحار سعيدة ، ألقت السفينة مراسيها على شاطئ الجزيرة الأصل التي كانوا قد أُخرجوا منها. وعندما أُحضرا بين يدي الملك ، تعرفت الأميرة على حبيبها وابنها، وطلبت من الملك أن يصدر عفوا عن الجميع . وقد خلف الشاب جده على عرش الملك. وهو الذي شيد الصنم.وبمجرد أن فرغ الراهب من رواية القصة ، أمر ذو القرنين جيوشه بالقلوع عن الجبل[47].
من بين وجوه الشبه التي أبرزها إميليو غرثية غومث بين “رسالة حي بن يقظان” و”قصة الصنم والملك وابنته” أن هذه الأخيرة تتفق مع الرواية الثانية التي يوردها ابنُ طفيل عن أصل حي بن يقظان ، وهي التي يقول فيها إن “حي” لم يتولد من الطين ، وإنما جاء ثمرة لعلاقة غير مشروعة بين أخت الملك وأحد رجاله . وفي “قصة الصنم والملك وابنته” نُلفي الأميرة “عُمْر” وقد فرض عليها والدها الإقامة الجبرية في قصر مشيد ، لتنجو من طالع سيء تنبأ لها به العرافون ، فاستسلمت في محبسها “لشمس” ابن الوزير ، وقد أنشأت معه علاقة سرية أثمرت طفلا . وكلتا الأميرتين – في الرسالة والقصة – تضعان وليدهما في صندوقين من الخشب ، وتلقيان بهما في اليم دون أن يشعر بهما أحد . وتتوجهان إلى الله في ضراعة مؤثرة تهز المشاعر أن يكلأهما برعايته وعنايته. فتحملهما الأمواج إلى الشاطيء ، ويستقران على الأرض ، وقد تصدعت جوانب الصندوقين ، ويتحرك الطفلان فتعطف عليهما غزالتان وتتبناهما.[48]
فقد جاء في رسالة (حي بن يقظان ):
“إنه كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف كثيرة الفوائدعامرة بالناس يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذ لم يجد لها كفواً. وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سراً على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم ثم إنها حملت فوضعت طفلاً. فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن أروته من الرضاع وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر وقلبها يحترق صبابة به وخوفاً عليه ثم إنها ودعته، وقالت: “اللهم إنك قد خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئاً مذكوراً ورزقته في ظلمات الأحشاء وتكفلت به حت تم واستوى وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك خوفاً من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له ولا تسلمه يا أرحم الراحمين” .
ثم قذفت به في اليم فصادف ذلك جري الماء بقوة المد فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها.
وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه إلا بعد عام. فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة مستورة عن الرياح والمطر محجوبة عن الشمس تزور عنها إذا طلعت وتميل إذا غربت. ثم أخذ الماء في النقص والجزر عن التابوت الذي فيه الطفل وبقي التابوت في ذلك الموضع وعلت الرمال بهبوب الرياح وتراكمت بعد ذلك حتى سدت باب الأجمة على التابوت، وردمت مدخل الماء إلى تلك الأجمة، فكان المد لا ينتهي إليها. وكانت مسامير التابوت قد قلقت وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء إياه في تلك الأجمة. فلما اشتد الجوع بذلك الطفل بكى واستغاث وعالج الحركة فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب. فلما سمعت الصوت ظنته ولدها فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه. فحنت الظبية وحنت عليه ورئمت به وألقمته حلمتها وأروته لبناً سائغاً.. ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى”[49].
وجاء في قصة الصنم والملك وابنته[50]:
“زعموا أنه كان من ملوك هذه المدينة لم يكن في ملوك الأرض أكبر مملكة منه كان في مجلسه ألف عالم وألف فيلسوف وألف وزير وألف طبيب وألف منجم وألف ساحر وكان لهذا الملك ألف سرير من بنات الملوك فلم يرزق منهن ولدا إلا بنتا واحدة من عمره فأوقع الله حبها في قلبه وسماها عُمْرا فكانت عند اسمها ، فلما أن برزت إلى الدنيا وأُخرجت من عدمٍ إلى وجودٍ أمر الملكُ المعدلين والمنجمين أن يأخذوا مولدها فأخذوا وعدلوا وقالوا: أيها الملك المعظم إن هذه الجارية يكون لها شأن من الشأن ، و تلد مولودا يكون له شأنٌ عجيبٌ وأمرٌ غريبٌ وخبرٌ طريف ، وتلده في اجتماع السبعة دراري وهو قلبُ الأسِد. والإشارةُ تغنيك عن العبارة. فأمر الملك في الحين ببناء قصر لها لا يكون في الدنيا مثله ففتح له الأساس وأفرغ منه الرصاص وجعل سورَه من النحاس وشرفاتِه من الفضة البيضاء ، على كل شرفة منها طاوسٌ من الذهبِ الأحمرِ ، عيناه من الياقوت وأجنحته من الزمرد الأخضر، وأَجْرَي فيه الأنهارَ وغَرسَ فيه من جميع الأشجار وجلب له جميع الطيور واستعد لهذا القصر ألفُ جارية وألفُ وقافة وألفُ حاجبٍ وجعل ألف عبد يحرسون القصر ليلا ونهارا. ودفع الجارية إلى ربيبة تربيها ، فكبرت وترعرعت. فلما حصلت في حد الحلوم هزتها الطبيعة اهتزاز المرهق وشاركتها شهوة..[51] وهي القوة الروحانية ، فصعدت يوما إلى كوكبٍ من كواكبِ القصرِ فأشرفت منه على جملةٍ من الخيلِ وفي وسطهم فتى أجملُ من الشمس. فقالت: مَنْ يكونُ هذا؟ فقيل لها: هو شمسُ ابنُ الوزير الذي ليس عند أبيك أكرم منه. فأوقعَ الله حبَّه في قلبها ، وأخذ بسمعها وبصرها، وغلبت شهوتُها على عقلِها وطرحتْ طريقَ الرشاد وأخذتْ طريقَ الفسادِ. فقالت لدادتها التي ربتها: كيف لي بالاجتماعِ به والخلوةِ معه؟ فأبت عليها وامتنعت من ذلك. فقالت للجارية: أقسمتُ قسما لئن لم تفعلي ما أمرتُك به لأنتقمن منك. فلم تقدر دادتُها أن تعصمَها فأدارتِ الحيلةَ حتى وصل شمسُ ابن الوزير في القصرِ. فخرجت إليه ابنةُ الملك وراودته عن نفسه فأبى من ذلك. فقالت: أقسمتُ قسما لئن لم تفعل ما يفعله الرجالُ بالنساء لأحرقنك بالنار. فلم يكن له ملجأ. فقال: إني أخاف سطوةَ الملك وشدةَ غضبه. فاصفرتْ واهتزتْ وقالت: ليس هذا موضعَ الخوف. فقال: اتركوني حتى يكون بيننا شاهدٌ وحقٌ. قالت: الشاهدُ حاضرٌ. قال: وأين هو؟ قالت: هو صاحب هذه البنية. قال: والحق ما هو؟ قالت: سيفُك وخاتمُك. فدفع لها السيفَ وانقضى بينهما الأمرُ، وزالت شهوتُها، ونادت بالويل والثبور، وقطعت شعرها ورمت بأثوابها، وبنت صومعةً وتعبدتْ، وظهر حملها، وكتمت سرها، وأخذت في الحيلة والتدبير بما ألهمها ربها، وكان لأبيها حجر ياقوت ما طرأ شبهه في الدنيا، وكان يفخر به على جميع ملوك الأرض. فاحتالت حتى أخذته ثم صنعت خلخالا من الذهب الأحمر وصنعت تابوتا من خشب، واستعدت لنفسها ولمولودها، فكانت ولادتها في ليلة أربعة عشر من الاعتدال.
فلما وضعت لفَّتْه ، وما اطلع على سرها إلا الذي قضى عليها بذلك. فسارت إلى ساحل البحر وقعدت وتربعت وأخرجت المولود من تحتها ووضعت في عنقه الحجر الياقوت وفي رجله خلخال الذهب الذي كانت صنعته له ورفعت وجهها قبل السماء وقالت بأعلى صوتها:
– يا حي يا مبين يا خالق كل شيء ، هذا ابني وقطعة من كبدي ولحمي ودمي ، خلقتَه في أحسن صورة ، في ظلمة الأحشاء ، وقضيتَ بهذا قبل أن تخلق الدنيا.
قال: ثم وضعته في التابوت واطبعت عليه وقالت:
– خذه إليك إني قد استودعتك إياه يا من لا يفرط في الودائع.
ورمت به في البحر ..
فقال الله للرياح: خذوا عبدي وسيروا به.
فما عُلِمَ مَا قَطَعَ في تلك الليلةِ مِن المَجَاري. فخرج إلى ساحل البحر في جزيرة خصيبة ، قد اجتمعت [فيها] كل الفواكه والخيرات ، وجميع الحيوانات بأجناسها إلا ابن آدم ما دخل قط تلك الجزيرة. فأخرجته الرياح إليها [ أي إلى الجزيرة]. فلما طلعت الشمس ، انتقصت أوصال التابوت ، وتخبط الطفل وبكى من العطش ، فسمعت الحيوانات لغة لم تعاهدها ورأوا صورة لم يروها ، ورأوا ذلك الحجر في عنقه ، فكانوا يرونه مشتعل النار ، فلا يقربه حيوان إلا غزالةً أقبلت إليه قد مات ابنها وجعلت تشمه فهداه اللهُ إلى ضرعها فسكنت إليه وشرب حتى روي فقبضها الله إليه فكانت تأتيه أربع مرات في النهار حتى اشتد لحمه ثم أخذته فنقلته إلى مغارة كانت في الجزيرة”.
توقف إميليو غرثية غومث أمام كثير من وجوه الشبه المشتركة ، بين الرسالة والقصة ، الواردة في النصين اللذين أوردتهما – مع ملاحظة أنه لم يورد النصوص التي أوردتها ؛ لأنه اعتمد ، كما ذكرت ، على ترجمة ليون جوتييه الفرنسية- وقد رتب غومث على ذلك أن هذه التماثلات الكبيرة ، حتى في أدق التفاصيل ، لا يمكن أن تأتي عرضا أو على سبيل توارد الخواطر ، ومن ثم فالتفسير الأوحد ، في هذه الحالة أننا بإزاء عملية تأثير وتأثر ، بين القصة والرسالة . وعلى هذا يكون ابن طفيل متأثر ، لا محالة ، بالقصة.[52]
من بين المشاهد التي استوقفت إميليو غرثية غومث ، وهو يقارن الرسالة بالقصة ، المشهد التالي الخاص بطفل القصة وقد بلغ سن الرشد ، ثم شرع يتأمل في ملكوت السموات والأرض : “فلما استوى عليه عقله نظر إلى ما صنع الله من الكواكب وارتفاعها والسماء وبنائها والفلك ودورته والأرض وانبساطها وإلى الحيوانات واختلاف صورها والبحر وتلاطم أمواجه والنبات وصفاته فنظر عن يمين وشمال وخلف وأمام وفوق وتحت”.
يرى المستعرب الإسباني:” أننا بإزاء مشهد استثمره ابن طفيل ووسع مساحته الجغرافية بشكل رائع ، ليفرغ فيه نظرياته الفلسفية . ولو مضينا مع وجوه الشبه بين القصة والرسالة إلى منتهاها لقلنا إن تأملات حي بن يقظان الأولى لم تتجاوز ما انتهى إليه الفضول الذي لا ينفد معينه لبطل القصة الشعبية الذي علم نفسه بنفسه على متن الجزيرة غير المأهولة بالسكان. وهي تأملات فضولية للطبيعة، تجلت أمام عقله ، بكل ما فيه من بكارة وعذرية ، في مشهد بلغ مبلغا عظيما من الروعة. فقد استنفد الراوي ، في تعبيراته السردية ، كل الاتجاهات التي بوسع الذكاء الإنساني أن يتحرك على متنها من حيث علاقته بالأجواء الخارجية “عن يمين وشمال وخلف وأمام وفوق وتحت” وقد استطاع حي بن يقظان أن يتجاوز النموذج ، الذي اقتفى أثره للإنسان الذي نشأ في أحضان الطبيعة ، فحسب ، في تأملاته الدقيقة الوثيقة التي لا تتعلق بالطبيعة الخارجية ، وإنما تتغلغل في داخل الموضوع ، راجعةً حتى تصل إلى جوهر الروح ، عبر مفازة وعرة ولذيذة ، في آن واحد ، تجتازها روحه إلى أن تقع في نشوة الوجد”[53].
من بين الجوانب المشتركة بين القصة والرسالة التي استوقفت إميليو غرثية غومث أن حي بن يقظان ، في الرسالة ، ومثيله ، في القصة ، أدركا أنهما لا شبيه لهما على متن الجزيرة من حيث النوع. وفي هذا يقول غومث: “بوسعنا كذلك أن نلفي أوجه تشابه واضحة في المشاهد الافتتاحية لهذا الجزء. من ذلك أن الفتي المعلم نفسه يتأمل الحيوانات كلها فلا يعثر على أثر ولا عين لشبيه له من نوعه ، ويبذل ما في الوسع لاصطياد الحيوانات البرية والبحرية ولكي يألف الخيول ويروضها، ويتأمل في كينونته الخاصة بما فيها من عجز إذ يرى جميع الحيوانات تمتلك وسائل للدفاع عن نفسها”[54].
ثم ينتقل إميليو غرثية غومث إلى المشاهد النهائية ، من القصة والرسالة ليرصد ما بينهما من وجوه شبه: “حتى لو افترضنا أن كثيرا من وجوه الشبه البادية للعيان لم تكن بقادرة على إقناعنا، فإن هذه القناعة لابد أن تأتي ، دون أدنى شك ، من ملاحظة مؤداها أن ابن طفيل ، بعد تجربته الفلسفية الطويلة التي كانت أشبه بكلام اعتراضي جاء بين قوسين ، يمسك بخيط القصة ويستعيده ، على الرغم من تعديله في شكلها بالقدر الذي تفرضه عليه رسالته الجوهرية – التي تستهدف التوفيق بين الدين والفلسفة- والتي تتطلب أن يكون الرجل الأول الذي التقاه حي [بن يقظان على متن الجزيرة غير المأهولة بالسكان] رجلا عاش في كنف الدين وتلقى تربية دينية على أعلى مستوى، وسوف يحدث بينهما اتفاق شامل كامل ، كما لو كانا مسافرين انتهى بهما المطاف إلى نقطة واحدة ، بعد أن سلكا في سبيل الوصول إليها دروبا مختلفة”[55].
من وجوه الشبه بين القصة والرسالة التي توقف أمامها إميليو غرثية غومث ما يتعلق بالشخصيات المقيمة على متن الجزيرة والوافدة إليها من خارجها. ففي القصة ستكون الشخصية الوافدة من خارج الجزيرة هي شخصية الوزير “شمس” والد الطفل الذي نما على متن الجزيرة إلى أن أصبح شابا. جاء الوزير منفيا بقرار من الملك إذ رأى رؤيا أفزعته . وقد وصل الوزير إلى الجزيرة عاريا يتضور جوعا على متن قارب ، سالكا الطريق نفسه الذي اجتازه ابنه من قبل في صندوق خشبي:
” فصُنع له مركبٌ وجُعل فيه دون عدة ولا آلة ، وجُعل فيه عريانا، ورمى به في البحر. فأمر الله تبارك وتعالى للرياح الأربع أن سيروا بعبدي إلى عبدي. فسارت به الرياح إلى تلك الجزيرة المذكورة”
وفي الرسالة ستكون الشخصية الوافدة إلى الجزيرة هي شخصية أبسال وهو عالم متدين
” وكان أبسال قد سمع عن الجزيرة التي ذكر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل وأن الانفراد بها يتأتى لملتمسه فأجمع على أن يرتحل إليها ويعتزل الناس بها بقية عمره. فجمع ما كان له من المال واشترى ببعضه مركباً تحمله إلى تلك الجزيرة وفرق باقيه على المساكين وودع صاحبه سلامان وركب متن البحر فحمله الملاحون إلى تلك الجزيرة ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنها.[56]”
من بين الأمور التي تتشابه فيها الرسالة مع القصة ، فيما يتعلق بالشخصيات أن الوزير في القصة وأبسال في الرسالة ، بعد أن وصلا إلى اليابسة وأصبحا على متن الجزيرة ، وهما يبحثان عن شيء يذهب عنهما الجوع، يبصران من بعيد شخصين ؛ الأول منهما وهو الوزير شمس يرى ابنه ، والثاني وهو أبسال يرى حي بن يقظان. وقد ظن الوزير أن ذلك الرجل الذي وقعت عينه عليه على متن الجزيرة تعرض للنفي والإقصاء مثله . وعلى الجانب الآخر خُيل لأبسال أن حي بن يقظان زاهد مثله آثر أن يحيا حياة التقشف والعزلة في خلوة مثله. وقد تسرب الخوف إلى نفس أبسال عند رؤية حي بن يقظان فولى هاربا ، وتعقبه حيٌّ إلى حين ، ثم أمسك عن ملاحقته. وقد رأى إميليو غرثية غومث أن في هذا الصنيع من ابن طفيل محاكاة واضحة للقصة ؛ إذ فزع الابن فزعا شديدا عند رؤية أبيه وهو يقترب منه ، دون أن يعرف أحدهما الآخر ، فآثر الهرب ، يتعقبه أبوه إلى أمد معين ، ثم توقف عن الملاحقة. وفي كل من القصة والرسالة ، بعد أن تسكن حالة الفزع والقلق ويتبدد الخوف ، يقترب الشخصان اللذان أمضيا سنوات عمرهما على متن الجزيرة ، في عزلة تامة عن الحياة الإنسانية ، بحذر وحيطة من الشخصين الوافدين إلى الجزيرة حديثا ، ويرهفان السمع لهما وهما يتلوان آيات من كتاب الله ويبكيان ويتضرعان. فهذه كلها تماثلات مذهلة وحاسمة في آن واحد[57].
جاء في القصة أن الوزير شمس خرج من القارب ” جيعانا عريانا، فجعل يمشي في الجزيرة يلتمس ما يمسك به رمق نفسه. فبينما هو كذلك إذ نظر إلى شخص في صورته فتعجب، وقال في نفسه ما هو إلا منقطع به في هذه الجزيرة. فجعل يمشي نحوه ، فكلما رآه الثاني نفر منه، فلما زاد قربا منه ازداد هو فرارا. فلما رآه كذلك رجع عنه، وجلس في موضع، فصار الأول يقص أثره ، حتى انتهى إليه ، فسمعه يقرأ بلسان لم يسمعه قط ، فسكن وحن إليه بما قد تقدم الدم والطبع. فصار الوزير يسوسه حتى قرب منه، فجعل يكلمه بالإشارة ، كما يكلم الأبكم. ثم صار يخط له في الرمل ، فلما فهم الحروف وصار يؤلفها حتى تعلم وفهم الكلام والكتابة”.
وجاء في الرسالة : “اتفق في بعض تلك الأوقات أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأبسال قد ألم بتلك الجهة فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر.
فأما أبسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين وصل إلى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها.
فخشي إن هو تعرض له وتعرف به أن يكون ذلك سبباً لفساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله. وأما حي بن يقظان فلم يدر ما هو لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك وكان عليه مدرعة سوداء من شعر وصوف فظن أنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً.
وولى أبسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء فلما رآه يشتد في الهرب خنس عنه وتوارى له حتى ظن أبسال أنه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة فشرع أبسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع والتواجد حتى شغله ذلك عن كل شيء فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلاً وأبسال لا يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه ويشاهد خضوعه وبكاءه فسمع صوتاً حسناً وحروفاً منظمة. لم يعهد مثلها من شيء من أصناف الحيوان ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته وتبين له أن المدرعة التي عليه ليست جلداً طبيعياً وإنما هي لباس متخذ مثل لباسه هو.[58]”
هذه بعض وجوه الشبه التي أحصاها إميليو غرثية غومث بين “قصة الصنم والملك وابنته” ، وهي قصة مجهولة المؤلف ، كما هو معروف ، و”رسالة حي بن يقظان” لابن طفيل. وهي تماثلات لا يمكن أن تأتي عفو الخاطر ، أو مجرد توارد خواطر ، دون أن يكون أحد العملين متأثرا بالآخر . فبين القصة والرسالة علاقة تأثير وتأثر لا تخطئه عين. لكننا لا نعرف ، على وجه القطع أي العملين متأثر بالآخر ؛ نظرا لغيبة المعلومات التاريخية الخاصة بتاريخ كتابة القصة التي لا نعرف اسم مؤلفها، ولا الظروف والملابسات التي أحاطت بكتابتها، لا من حيث البواعث ولا من حيث الغايات .
وقد قطع إميليو غرثية غومث بأن الرسالة متأثرة بالقصة لا محالة[59]. وما فتئ المستعرب الإسباني يكرر هذا اليقين الذي اقتنع به ، بطول دراسته التي أعدها عام 1926 ، بأشكال تعبيرية مختلفة ، فهذه “القصة الشعبية المتواضعة ، كانت ، دون أدنى شك ، النموذج الذي اعتمد عليه ابن طفيل. وعلى الرغم مما وصلت إليه رواية ابن طفيل من جودة وإتقان وما بلغته من روعة تخطف الأبصار في بنائها – أعترف أن العثور على المصدر الذي لا يرقى إليه أدنى شك لواحد من أكثر الأعمال شهرة وأكبرها إثارة للإعجاب في الأدب الأندلسي ، كان ، بالنسبة لي ، بمثابة مفاجأة سارة ، وقد خلف في نفسي أكبر قدر من الغبطة والسرور. “[60] . لكنه لم يقدم دليلا تاريخيا واحدا مقنعا على كون القصة أصلا والرسالة صدى لها. فكل المعلومات التي وفرها إميليو غرثية غومث تتعلق بوصف المخطوطة التي تتضمن القصة ، من حيث لون الحبر ، وأبعاد الصفحات ، وعدد الأسطر في كل صفحة ، ونوع الخط الذي نسخت به ، وتاريخ النسخ الذي يرجع إلى القرن السادس عشر . وهذه المعلومة الأخيرة ربما كانت مقصودة لإثبات أن مخطوطة الرسالة كانت موجودة في إسبانيا ، في منطقة أرغون قبل أن يكتب بلتسار جراثيان رواية النقادة في أواسط القرن السابع عشر ؛ رغبة في أن تكون القصة في متناول يد جراثيان قبل أن يشرع في كتابة روايته.
لا نعرف التاريخ الحقيقي لكتابة قصة الصنم والملك وابنته ، ولا أصلها ،ولا المنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها ، ولا اسم مؤلفها ، ولا الظروف والملابسات التي أحاطت بتأليفها ، ولا الأطوار التي مرت بها. والمخطوطة التي جاءت فيها القصة مخطوطة واحدة وحيدة يتيمة ، لم نلف لها ذكرا في الموسوعات القصصية العربية المشرقية ولا الأندلسية ولا الموسوعات والمعاجم التي أعدها كبار المستشرقين ، ومن بينهم المستشرق البلجيكي الشهير فيكتور شوفان الذي أعد موسوعة ضخمة عن الكتب العربية جاءت في اثني عشر مجلدا. كما أن كبار المستعربين ، من مختلف الجنسيات ، ممن اهتموا بأدق تفاصيل التراث العربي وأفنوا أعمارهم في تتبعه ، لم يرد لدى أي منهم ذكر لهذه القصة .
وإذا كان الأصل في القضايا العلمية أن نبني المجهول على المعلوم[61] ، كما يرى الناقد الروماني أليكساندرو تشورينسكو ، فإن إميليو غرثية غومث عكس القضية ؛ إذ بني عملا أدبيا معلوما للكافة في مشارق الأرض ومغاربها، وهو رسالة حي بن يقظان ، على عمل مجهول الهوية . وهو أمر ليس من المنطق في شيء ، ولا يقره عقل . لكن يبدو أن المستعرب الإسباني كان يستهدف ، تحت أي ذريعة ، أن ينقذ بلتسار جراثيان من شائنة التقليد أو المحاكاة لرسالة حي بن يقظان . ورغبة في الوصول إلى هذه الغاية لابد من سحب صفة الأصالة من ابن طفيل ، وخلعها على عمل لم يكلف التاريخ الإنساني خاطره بأن يحتفظ باسم مؤلفه .
ولكن نظرا لأن رأي إميليو غرثية غومث لم يستند إلى أدلة يقينية دامغة وحقائق تاريخية ثابتة ، فقد ترك الباب مواربا أمام الباحثين، ربما إبراء للذمة أمام التاريخ ؛ إذ ربما تكشف الأيام عن بعض الحقائق التاريخية التي تتعلق بقصة الصنم والملك وابنته ، التي قد تؤكد ما انتهى إليه المستعرب الإسباني أو تبطله. ففي محاولة واحدة مقتضبة ساقها غومث على استحياء لتخفيف تأكيداته القاطعة يقول : “لن أستيئس من أن أُلفي يوما ، أو أن يعثر آخرون غيري على أصداء لهذه القصة من شأنها أن تؤكد النتائج التي انتهيت إليها أو أن تعدل منها”[62]
لا جرم أن إميليو غرثية غومث قدم إضافة علمية عظيمة الأهمية باكتشافه لقصة الصنم والملك وابنته ، وتحديده مواطن التشابه بينها وبين رسالة حي بن يقظان ، وقد جاء هذا التشابه ثمرة لعلاقة تأثير وتأثر بين العملين . هذه حقائق ليس إلى التشكيك فيها من سبيل ، وليست موضع خلاف بيني وبينه . لكن الخلاف في تحديد هوية المؤثر والمتأثر ، في ظل غياب الجسور الحقيقية والمعابر التاريخية التي بموجبها نستطيع أن نحسم هذه الجزئية ، ونحدد طرفي العلاقة فيها من حيث التأثير والتأثر.
على أنني لا أستطيع أن أغض الطرف عن البواعث والغايات التي تقف وراء تفسير إميليو غرثية غومث لوجوه الشبه بين القصة والرسالة، وتأكيداته القاطعة حول تأثير القصة في الرسالة . فقد كان المستعرب الإسباني، وهو في مرحلة الشباب بكل ما فيها من عنفوان وحماسة ، يروم التهوين من أصالة ابن طفيل بإثبات أن رائعته الأدبية الفلسفية “رسالة حي بن يقظان” لم تنشأ في فراغ ولم تأت على سابق مثال ، وإنما جاءت امتدادا لأعمال سابقة ، فهي من حيث المحتوى الفكري والفلسفي تدين بالولاء والانتماء لتراث فكري إسلامي ويوناني عريق ، ومن ناحية الشكل الفني والمظهر القصصي متأثرة بالقصة مجهولة المؤلف . ومن البين أن الوصول إلى هذا الأمر لم يكن نهاية المطاف ، فلم يكن إسقاط نظرية أصالة ابن طفيل الغاية النهائية المرجوة التي كان إميليو غرثية غومث يطمح في الوصول إليها ، وإنما كان ذلك وسيلة تستهدف الوصول إلى غاية أبعد من ذلك، وهي إسقاط نظرية تأثير ابن طفيل في رائعة الأدب الإسباني وهي رواية النقادة لبلتسار غراثيان . وبالتالي لن يكون لابن طفيل أي فضل على بلتسار جراثيان. فحماسة غرثية غومث ، إذ كانت تستهدف التهوين من أصالة ابن طفيل ، إنما كانت تروم إسقاط نظرية تأثر مواطنه جراثيان بابن طفيل وإزالة الحرج عن الأديب الإسباني، لتخلع عن جراثيان عباءة اقتفاء أثر ابن طفيل .
وكأنما عز على نفر من الإسبان ، ومن بينهم إن لم يكن في صدارتهم غرثية غومث نفسه ، أن يهتز عرش جراثيان ، وهو قمة من قمم الأدب الإسباني ، لمجرد تأثره بأديب عربي. فلأن يكون تأثره بأسطورة عامة مشتركة لا يعرف لها مؤلف محدد الهوية أجدى عليهم من أن يكون إبداعه عالة على مؤلف عربي يعرفه الناس ، ومن ثم لا تُمس أصالته بسوء ، فهو إنما قبس مما هو متاح للقاصي والداني كما يتنفس الناس جميعا هواء مشتركا ، ويستظلون بسماء مشتركة وتقلهم أرض واحدة . ولا يخفى ما في هذا المسلك من تعصب للأديب الإسباني كما سنرى . لقد غلبت حماسة الشباب على باحث كان يشق خطواته الأولى في حقل البحث العلمي ، وكان يروم الدفاع عن الأمجاد الأدبية والأبنية الفكرية لأمته الإسبانية ، بإثبات بطلان ما انتهى إليه أسلافه الكبار الذين أدلوا بشهادات علمية من شأنها أن تجعل عملا أدبيا على قمة الإبداع في إسبانيا تابعا لعمل أجنبي وهو رسالة حي بن يقظان.
رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة:
لم تكن الإجابة على السؤال الخاص بمصادر ابن طفيل الغاية النهائية التي استهدف إميليو غرثية غومث الوصول إليها ، كما ذكرت قبل قليل ، وإنما كانت وسيلة للوصول إلى غاية أخرى ، أبعد منها مدى وأكثر أهمية، وهي إبطال نظرية التأثير والتأثر بين ابن طفيل وبلتسار جراثيان. وقد جاء كلام المستعرب الإسباني صريحا بخصوص الوصول إلى هذه الغاية الأخيرة : “على أن الأكثر أهمية هو قضية العلاقة بين الرواية العربية لابن طفيل والفصول الأولى من رواية النقادة لبلتسار جراثيان”[63].
وقد رأى إميليو غرثية غومث أن أصحاب نظرية التأثير والتأثر ، التي فرضت نفسها على الدارسين على امتداد سنوات ليست بالقليلة ، بدءا من القرن الثامن عشر ، مرورا بالقرن التاسع عشر ، حتى بدايات القرن العشرين، قصروا اهتمامهم على “التشابه الذي ليس إلى إنكاره من سبيل”[64] الذي ألفوه بين رسالة حي بن يقظان والفصول الأولى من رواية النقادة . وقد قادهم هذا التشابه إلى نتيجة مؤداها أن بين الرسالة والرواية علاقة تأثير وتأثر؛ فقد كانت الرسالة بمثابة النموذج الذي اقتفى أثره وحاكاه بلتسار جراثيان ، وهو بصدد كتابة رواية النقادة.
ولإثبات بطلان نظرية المحاكاة بين الرسالة والرواية ، أعاد غومث تناول الموضوع من زاويتين ؛ تاريخية ووصفية ، مركزا على مواطن الخلاف بين العملين .
أما من الناحية التاريخية ، فلم يُجب أصحاب نظرية المحاكاة على سؤال مؤداه: “كيف استطاعت أنباء رسالة حي بن يقظان أن تصل إلى مدارك اليسوعي الأراغوني الكبير [ بلتسار جراثيان] إذا كانت الطبعة الأولى للنص الأصلي [ للرسالة] ومعها الترجمة اللاتينية الأولى التي قدمها بوكوك (1671) لم تر النور إلا بعد صدور الطبعة الأولى من الجزء الأول من النقادة بعشرين عاما (1651) ؟ بمجرد البرهنة على وجود محاكاة ، فإن إقامة دليل على الكيفية التي جرت بها المحاكاة ، أو العثور على وسيلة الاتصال بالنص المُحاكَى ، إن هي إلا مشكلة مختلفة ، بشكل مطلق ، وأن الأمر لا يتعلق بحال من الأحوال بالمشكلة الأولى [ الخاصة بمصادر ابن طفيل]”[65].
هذه الحقيقة التاريخية من شأنها أن تلقي ظلالا من الشك حول نظرية المحاكاة بين الرسالة والرواية.
وعلى الرغم من أن الرسالة كتبت قبل الرواية بحوالي خمسة قرون ، فإن أحدا من الدارسين الذين يظاهرون نظرية التأثير والتأثر لم يقدم دليلا واحدا على وسيلة الاتصال بين العملين . وقد استغل إميليو غرثية غومث غيبة الجسور والمعابر التي ربطت بين ابن طفيل وجراثيان لإثبات بطلان نظرية المحاكاة ، مؤكدا أن “إقامة دليل على الكيفية التي جرت بها المحاكاة ، أو العثور على وسيلة الاتصال بالنص المُحاكَى” ، وهو رسالة حي بن يقظان، إن هو إلا ضرب من المستحيلات. وقد اصطفت هذه الاستحالة جنبا إلى جنب مع توجه عام للدراسات العلمية الأوربية الحديثة التي كانت لها الهيمنة والغلبة ، والتي كانت تناهض مناهضة لا هوادة فيها أي تأثير عربي ، بأحكام معدة سلفا. و” إذا كان الإقرار بالتأثيرات العربية في ثقافة العصور الوسطى التي ليس إلى نكرانها من سبيل ، من شأنه أن يواجه بصعوبات ، عندما كانت كلتا الحضارتين تتعايشان معا تعايشا حميما ، في الوقت الذي وصلت فيه الحضارة الإسلامية إلى مدى من الإتقان والصقل ، لم تبلغه أوربا المثقفة حتى عصر النهضة الأوربية [ إذا كان ذلك كذلك ] فكيف نسلم ، دون أدنى تحفظ، بتأثير الفليلسوف العربي الأندلسي ، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي ، في اليسوعي الأرغوني ، وقد ألفت فيه التيارات الأيديولوجية ترجمانا ثاقب الفكر للثقافة الأوربية في مرحلة ما بعد النهضة الأوربية؟”
مثلما اعتمد إميليو غرثية غومث على الفاصل الزمني ، الذي بلغ عشرين عاما ، بين ظهور الرواية وظهور أول ترجمة لاتينية للرسالة ، لإلقاء ظلال من الشك على نظرية التأثير والتأثر ، استغل ، بالطريقة ذاتها ، غيبة وسيلة الانتقال بين العملين لتأكيد الغاية التي استهدف الوصول إليها وهي اجتثاث نظرية المحاكاة من جذورها.
لكنه لم يقنع بهذا القدر فحسب من دعواه ، بل اصطنع منهجا وصفيا تأويليا لمشاهد من الرسالة والرواية ، مركزا فيه على مواطن الاختلاف بين العملين ، ليباعد بها بين الرسالة والرواية ويقطع كل وسائل الاتصال بينهما، ومستبعدا ، في الوقت نفسه ، وجوه الشبه القوية بينهما ، وهي التي قادت خطى أسلافه من الدارسين لتأكيد نظرية المحاكاة.
من بين الجوانب التي اعتمد عليها إميليو غرثية غومث لإبطال نظرية المحاكاة أن رواية النقادة لم تتضمن فرضية الميلاد العجيب للبطل دون أم ولا أب ، كما حدث في إحدى الفرضيتين الخاصتين بميلاد حي بن يقظان[66].
وقد كان اختلاف المقاصد والغايات ، بين العملين ، سببا من الأسباب التي وظفها إميليو غرثية غومث لمناهضة نظرية المحاكاة. ففي حين كان ابن طفيل يستهدف من وراء رسالة حي بن يقظان الوصول إلى غايات فلسفية ميتافيزيقية ، رام بلتسار جراثيان ، من خلال رواية النقادة ، أهدافا ومقاصد أخلاقية. وقد أشار المستعرب الإسباني إلى أن الدراسات التي آمن أصحابها بنظرية المحاكاة ، التفتت إلى اختلاف التوجه بين العملين.”واقع الأمر، أن الدراسات النقدية السابقة ، إذ كانت تفكر في الصلة المباشرة بين الفصول الأولى من رواية النقادة لبلتسار جراثيان ورسالة حي بن يقظان لابن طفيل ، استغرب أصحابها اختلاف التوجه الذي يفصل بين العملين. وفي هذا الصدد يقول منندث بلايو “لا ينبغي التهويل من شأن التشابه بين الماثل بين العملين، لأن ابن طفيل هو في المقام الأول ميتافيزيقي، في حين أن بلتاسار جراثيان من حيث الجوهر فيلسوف أخلاقي، على الرغم من أن شوبنهاور نظر إلى رسالة حي بن يقظان من حيث كونها بلغت مبلغا عظيما من حيث الأهمية وعلو الشأن ، وقد ألفي فيها أسلافا لفلسفته الخاصة في التشاؤم . وأما كتاب النقادة الذي عده شوبنهور واحدا من أفضل الكتب على مستوى العالم ، إن هو إلا بنية رمزية شديدة التكثيف للحياة الإنسانية ، وليس ضربا من التأملات ولا تجليات الوجد لدى إنسان متوحد”. وتعليقا على الفكرة نفسها كتب غوتييه: “وغني عن البيان أنه على الرغم من القواسم المشتركة بين النقادة ورسالة حي بن يقظان ، فإن المقاصد الجوهرية لجراثيان ومخاوفه العقائدية، مختلفة تماما. فليست النقادة عملا ميتافيزيقيا ولا صوفيا ولكنها فلسفة أخلاقية فحسب”[67].
وقد اتخذ غومث من اختلاف المقاصد والغايات ، بين الرسالة والرواية ، ذريعة لإبطال نظرية التأثير والتأثر ، واستبعاد وجود علاقة مباشرة بين العملين.
إذا كانت الحجج المقدمة من أصحاب نظرية المحاكاة قد تأسس جانب منها على تشابه شخصية (حي) في الرسالة مع شخصية (أندرنيو) في الرواية من حيث النشأة الذاتية على متن أرض صحراوية غير مأهولة بالسكان ، بمعزل عن أي مؤثرات خارجية، وتشابه شخصية (أبسال) في الرسالة مع شخصية (كريتيلو) في الرواية ، من حيث نزوحهما من المجتمع البشري الذي عاشوا فيه وتأثروا به ، إلى الجزيرة التي تقل على متنها الفتى المتوحد المعلم نفسه ابن الطبيعة – فإن إميليو غرثية غومث اتخذ من هذه الشخصيات ذاتها ذريعة للتفريق بين الرسالة والرواية ؛ إذ ركز على المكونات الداخلية لهذه الشخصيات وفسر سلوكها وردود فعلها بطريقة مختلفة ، كل أولئك من أجل إحداث قطيعة بين العملين وإثبات أن رواية النقادة كُتبت بمعزل عن أي مؤثرات أجنبية نازحة من رسالة حي بن يقظان.
يقول إميليو غرثية غومث:” على أن الأمر الأكثر أهمية ، في رأينا، يتمثل في التفاوت بين ملامح شخصيتي كل من حي بن يقظان وأندرنيو. فحي يلاحظ، ويتأمل،ويدقق النظر ، ويستبطن الأشياء ، ويتدبرها. وقد توجت جهوده بالنجاح في هذا الصراع الدرامي من أجل المعرفة، وهو الصراع الناشب بين تعددية الكون وتنوعاته المربكة ، وبين عقله اليتيم في عزلة تامة عن أي مؤثرات خارجية. بدأ الحجاب الإلهي يُرفع عن عينيه في نشوة الوجد، ووصل إلى أعلى مراقي الحكمة السامية والنبيلة. وأما أبسال، فهو رجل نازح من المجتمع الإنساني، ويتميزبالحكمة والعلم والتقوى والورع، وقد أعجبه علمه وتقواه. ومن خلال رحلته المكوكية الخاطفة إلى المجتمع البشري ما كان له أن يتعلم منه شيئا ، وكان شأنه في هذا كمن استمتع بحياة أسمى ألف مرة ، ليهجر هذا المجتمع وليعود إلى جزيرته غير المأهولة بالبشر . وأما أندرنيو فشتان بينه وبين هذا العلم وهذه الحكمة السامية ، وما أبعد الشقة بينه وبين هذا اليقين الثابت العميق والمتعالي. فهو امرؤ ريفي كان يعيش في بلاط العالم الإنساني المضلل ، وقد وطئته قدماه في وقت لاحق . فما إن سمع أغنية من النساء الفاتنات حتى شعر بالإغماء واستسلم على الفور. وقد رأيناه ، في الفصول كلها ، يدخل مبهورا ، وبشكل ساذج ، من الباب الرئيسي للذة والمتعة ، ليخرج من الأبواب الخلفية لخيبة الأمل . إذا كانت محاولة جراثيان أخلاقية بشكل مبكر قبل جان جاك روسو ، كما يقول جوتييه، فقد فشل في الوصول إلى غاياته ومقاصده : ذلك أن أندرنيو كان رجلا طبيعيا، لم تسعفه أدواته قبالة كريتيلو الذي عرك الحياة الاجتماعية وكان راسخ القدم تظاهره خبراته وتجاربه في الحياة. لو أن جراثيان كان يبحث عن استلهام شخصية حي بن يقظان ، دون قصد منه ، محاولا التغيير ، لكانت طبائع حي بن يقظان قد انتقلت إلى شخصية أندرنيو ، بما تتميز به من ثبات وحزم ، إضافة إلى وعيه بتفرد حياته الخليقة بعدم المهادنة مع سائر الناس ، وهي ضرب من السير في دروب الحياة بكل ثقة وشموخ يتعذر معه السقوط. فما تتشابه فيها شخصية حي بن يقظان مع شخصية أندرنيو إن هو إلا الأخوة في المغامرة”[68].
يضيف إميليو غرثية غومث إلى كل ما سبق ذريعة أخرى ، يستهدف بها إبطال نظرية المحاكاة بين الرسالة والرواية . وهذه الذريعة ترتبط بعلاقة كل من العملين بالدين . فرسالة حي بن يقظان لم تُكتب بمعزل عن الأفكار والمفاهيم الدينية الإسلامية ، بل إن هذه المفاهيم لتُعد ركنا ركينا من مكونات الرسالة ، في حين خلت الرواية خلوا شاملا كاملا من أي مرجعية دينية . وهذا من شأنه أن يحدث قطيعة بين العملين . لذلك “لا ينبغي علينا أن ننسى، فضلا عن ذلك ، الانطباع الذي يمكن أن يخلفه في ذهن جراثيان ، بكل تأكيد، وهو قس يسوعي، عملٌ أدبيٌ مثلُ رسالة حي بن يقظان ، وهي رسالة دينية في أعماقها ، بل إنها لصوفية. انطباع من شأنه أن يتجلى في إحدى طريقتين: إما الاشمئزاز والاحتقار الذي مرده إلى مذاهب اعتقادية تتعارض تعارضا شديدا مع العقيدة الكاثوليكية، أو التحفيز، المثير للجدل إلى حد ما، الذي يستهدف أن نصب في قالب أدبي مثير للإعجاب لعمل إسلامي، الإيمان المسيحي ذاته، الملتهب في نفوس من يؤمنون به.
على أن ما يتعذر تفسيره ، على افتراض أن الرسالة كانت مصدرا للنقادة ، هو الغيبة الشاملة الكاملة لأي إشارة أو مرجعية دينية في رواية جراثيان”[69]
وبعد أن استفرغ كل ما لديه من حجج من أجل إقصاء فكرة محاكاة جراثيان لابن طفيل عن الأذهان ، رتب إميليو غرثية غومث على وجوه الاختلاف ، التي أحصاها، بين الرسالة والرواية أن بلتسار جراثيان “لم يستفد من رسالة ابن طفيل. ولا مرية في أنه لم يعرف عنها شيئا. لكن على فرض أنه كان على علم بها ، فإن روحه المرهفة الرقيقة من شأنها أن تحول دون أن يدنس عملا متناغما ومكتملا بحضارة أجنبية ، رغبة في أن يأخذ من هذه الأخيرة ، فحسب ، المادة الخام للحبكة القصصية ، ويدع روحه تتبخر أو تذعن في انكسار لالتواء عنيف”[70].
لا جرم أن كلام إميليو غرثية غومث الأخير ، في دفاعه عن جراثيان ، تغلب عليه الحماسة الانفعالية المفرطة ، وهو أمر كرره في غير ما موضع من رسالته للدكتوراه ، ويفتقر إلى البرهنة بأدلة مقنعة على أن الأديب الإسباني ، إبان كتابة رواية النقادة ، كان في عزلة تامة عن أي مؤثرات من رسالة حي بن يقظان ، ولم يتناه إلى سمعه نبؤها . وقد بلغت الحماسة بغرثية غومث مبلغا أوشك معه ألا يخلو كلامه من تعصب غير مستساغ في حقل البحث العلمي ، وفي إطار دراسات الأدب المقارن التي تصطنع المنهج التاريخي على نحو خاص. وإلا فما معنى أن جرثيان ، حتى لو كان على علم دقيق وثيق برسالة حي بن يقظان ، لا يسمح له شموخه وكبرياءه أن يمد عينيه إلى ثقافة أجنبية يستعير منها؟! ؛ فملكاته الفنية كانت من الثراء بحيث تغنيه عن أن يمد يدا إلى عمل أجنبي مثل رسالة حي بن يقظان.
تفسير جديد للتشابه بين الرسالة والرواية:
لو افترضنا ، جدلا ، أن بلتسار جراثيان لم يكن لديه أدنى علم برسالة حي بن يقظان ، وأنه كان يجهلها جهلا شاملا كاملا ، فَبِمَ نُفسر “وجوه الشبه المذهلة”- بحسب تعبير إميليو غرثية غومث نفسه- التي ألفاها الدارسون بين الرسالة والرواية ، وليس في ذرع غرثية غومث أن ينكرها ؟
يغلب على ظني أن إميليو غرثية غومث أعدَّ دراسته بطريقة منظمة محكمة من الناحية المنطقية بحيث يقدم مجموعة من الذرائع ، وإن افتقرت إلى أدلة دامغة ، يستهدف بها تفكيك القرابة التي ألفاها الدارسون بين الرسالة والرواية ، حتى إذا لم يبق في الذرع سوى التساؤل عن وجوه الشبه بين العملين ، إذا لم يكن لأحدهما معرفة بالآخر. وكأنما كان يستهدف إميليو غرثية غومث أن يصل بالقارئ إلى هذه المرحلة ، ليتصدى هو للإجابة على السؤال المتوقع.
يرى المستعرب الإسباني أن التشابهات التي ألفاها الدارسون بين رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة ، ليس مردها إلى وجود علاقة تأثير وتأثر بين العملين أو أن بلتسار جراثيان قد حاكى ابن طفيل ، وإنما مرد هذه التماثلات بين العملين إلى أنهما تأثرا بمصدر مشترك وهو قصة الصنم والملك وابنته.
وقد أجرى غرثية غومث مقارنة بين قصة الصنم والملك وابنته ورواية النقادة ، أحصى فيها وجوها من الشبه بينهما ، لينتهي الاعتقاد أن القصة كانت مصدر بلتسار جراثيان ، ولم تكن الرسالة التي تشترك مع النقادة في العلاقة التي توجد بين نسختين تفرعتا عن أصل واحد ، وهو القصة ، وتأثر كل عمل منهما بالقصة بطريقة منفصلة.
الرد على إميليو غرثية غومث:
الحجج والذرائع التي استند إليها إميليو غرثية غومث تأدت به إلى أن يعلن أنه قال كلمة الفصل الأخيرة بشأن مصادر ابن طفيل في رسالة حي بن يقظان. لأن المصدر الذي اهتدى إليه أسقط نظرية الأصالة التي خلعها أسلاف غومث على رسالة حي بن يقظان ، وهذا المصدر نفسه من شأنه أن يتأدى بنا إلى إعادة النظر في علاقة ابن طفيل بجراثيان. وقد استهدف غومث تفكيك العلاقة بين الرسالة والرواية وتفسير التشابه بينهما من خلال النظر إلى القضية من زاويتين: تاريخية ووصفية ، مقارنا بين القصة والرواية ، مثلما قارن من قبل بينها وبين الرسالة ، محاولا تقريب المسافة بينهما إلى أبعد مدى ، وفي الوقت نفسه حاول جاهدا أن يباعد بين الرسالة والرواية وأن يقطع كل وسائل الاتصال بينهما ، من خلال التركيز على مواطن الخلاف . وقد أحصى وجوها من الشبه بين القصة والرواية ليصل إلى نتيجة مؤداها أن الرواية اعتمدت القصة مصدرا ، وأن العلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر مباشرة ، وقد جرت هذه الأحداث في غيبة شاملة كاملة للرسالة عن مدارك بلتسار جراثيان.
ولإثبات أن جراثيان لم يتأثر بابن طفيل قارن غرثية غومث بين الرسالة والرواية، مركزا على مواطن الخلاف بينهما ، من حيث الأهداف والغايات ، وبناء الشخصيات .وقد تجلى كل أولئك من خلال أسلوب انفعالي وحماسي لبلتسار جراثيان ، رغبة في أن يقر في الأذهان أن مؤلف رواية النقادة أكبر من أن يستعير أفكارا من غيره. ولئن قيل : أوليس تأثره بالقصة ضربا من الاعتماد على الغير ؟ ستكون الإجابة أن هذه القصة ليس لها مؤلف معروف وقد غدت عملا أسطوريا خياليا ومعنى عاما من حق كل إنسان ألا يغض الطرف عنه ؛ فليس من حق أحد أن يدعي ملكيتها . ومن ثم فإن استفادة جراثيان من القصة لا بأس بها فهي من المعاني العامة المشتركة المتاحة للجميع، شأنها في هذا شأن الهواء الذي نتنفسه والأرض التي نمشي عليها.
والرأي عندي أن حجج إميليو غرثية غومث ، مع إقراري بوجاهتها من حيث الشكل ، من شأنها أن تكون قابلة للنقاش ، وليس في الذرع الاستسلام أمامها والتسليم بكل ما جاء فيها أو تقديسها بوصفها مسلمات لا تقبل الجدل . فقد اعتمد المستعرب الإسباني على وجوه الشبه بين القصة والرسالة ليبطل نظرية الأصالة الخاصة بابن طفيل . كما اعتمد في الوقت نفسه على وجوه الاختلاف بين الرسالة والرواية ليدحض نظرية المحاكاة ، ويبرئ ساحة الأديب الإسباني الكبير بلتسار جراثيان من شائنة محاكاة الأديب الأندلسي.
ولعل تجاهل جراثيان نفسُه لرسالة حي بن يقظان ، وهو يذكر عددا من المصادر الأوربية التي ألهمته كتابة الرواية – كان من بين الأسباب التي جعلت إميليو غرثية غومث يجهد نفسه في الدفاع عنه. بوسعنا أن نصطنع المنهج نفسه الذي وظفه إميليو غرثية غومث ، من خلال مقارناته بين الأعمال الثلاثة ، لننتهي إلى نتيجة من شأنها أن تهدم كل ما وصل إليه غومث . فإذا كان قد ركز على وجوه الاختلاف بين الرسالة والرواية ليستخلص من ذلك أن جراثيان لم يتأثر بابن طفيل – فنستطيع ، بالطريقة ذاتها ، أن نحدد المواطن التي افترقت فيها الرسالة عن القصة ، ونرتب على ذلك أن ابن طفيل لم ير القصة ولم يتأثر بها . وليس متعذرا علينا ، كذلك أن نحصي المواضع التي اختلفت فيها رواية جراثيان عن القصة مجهولة المؤلف لنقطع دابر أي محاولة من شأنها أن تقول إن الرواية متأثرة بالقصة. وبالتالي تتفتت العلاقات بين هذه الأعمال الأدبية الثلاثة ، ويصبح كل عمل منها مكتوبا بمعزل عن أي مؤثرات من شقيقيه الآخرين.
ولو سلمنا ، جدلاً ، بأن رسالة حي بن يقظان كانت أثرا من قصة الصنم والملك وابنته ، فإن ذلك ليس من شأنه أن ينال قيد أنملة من أصالة ابن طفيل . فقد اعتمد ، شأنه في هذا شأن بلتسار جراثيان ، على مصدر إلهام أسطوري عام مشترك ، من حق كل أديب أن يأخذ منه بالقدر الذي يخدم أغراضه ومقاصده. وفي هذه الحالة سيكون ابن طفيل أعلى كعبا من جراثيان ؛ لأن وجوه الشبه بين القصة والرواية أكثر منها بين القصة والرسالة ، كما أقر بذلك إميليو غرثية نفسه . فابن طفيل لم يأخذ من القصة ، في هذه الحالة ، إلا القليل الذي كان بمثابة الشرارة التي أطلقت لخياله العنان ليحلق في أفق أعلى. وعلى العكس من ذلك فقد كان دين جراثيان للقصة أكبر واستفادته منها أوسع لأنه لم تكفه الإشارة.
إن كل ما قلتُه هنا إن هو إلا جدل عقيم لا يستند إلى حقائق على الأرض . وما قلتُه إلا مجاراةً للأسلوب الذي اصطنعه إميليو غرثية غومث لإفساد العلاقة بين ابن طفيل وبلتسار جراثيان ، ومظاهرة جراثيان الذي ذكر كل شيء وأخفى أهم شيء ، وكان يفتقر إلى الشجاعة الأدبية التي تسمح له بأن يعترف بدينه لرسالة حي بن يقظان .
آراء غرثية غومث كلها قائمة ، إذن ، على فرضيات نظرية ، سواء منها ما يتعلق بعلاقة القصة بالرسالة أم ما يتعلق بعلاقة هذه الأخيرة بالرواية، وأخيرا علاقة الرواية بالقصة.
والذي أميل إليه ، في ضوء ما هو متاح ، أن (القصة) كتبت في إسبانيا للمرة الأولى ، وفي القرن السادس عشر على نحو خاص ، وليست نازحة من الشرق كما يفترض إميليو غرثية غومث . لأنها لو كانت نازحة من الشرق البعيد ، كما يظن ، لما سكتت عنها الموسوعات العربية والأوربية ، وقد تتبعتْ أعمالا أخرى تأتي دونها من حيث الأهمية . فهذه القصة تحديدا ، من خلال المغامرات الخيالية الأسطورية التي اشتملت عليها ، ما كان لها أن تمر عبر أجيال متتابعة من تاريخ الإنسانية ، بطريقة سرية ، دون أن يذكرها أحد ، أو تستوقف المؤرخين والمنظّرين ، أو تترك صدى في أعمال أدبية أخرى.
كتبت هذه القصة في إسبانيا أيام الموريسكيين لعدة أسباب ؛ من بينها أنها جاءت مجهولة المؤلف. وهذا أمر ألفناه في القرن السادس عشر على نحو خاص ، وفي إسبانيا تحديدا . فثمة أعمال أدبية أخرى ، كتبت خلال هذه الفترة، ولم نُلف لها مؤلفا يكمن الاطمئنان إليه أنه هو صاحب العمل المعين . فرواية “لثريو دي تورميس” تنتمي إلى القرن السادس عشر ، وقد كتبت في إسبانيا ، وتحمل في أحشائها أثرا ظاهرا من التراث العربي . وقصيدة الحب الإلهي الشهيرة ” إلهي لا تغرني بهواك” جاءت مجهولة المؤلف وتنتمي إلى هذه الفترة وقد كتبت في إسبانيا ، والتأثير العربي فيها ظاهر لا تخطئه عين. وثمة أعمال أخرى تنتمي إلى هذه الفترة وتنطبق عليها هذه المواصفات.
في ضوء هذه الحقائق التاريخية التي ذكرتها أعتقد أن “قصة الصنم والملك وابنته” متأثرة برواية حي بن يقظان ، شأنها في هذا شأن رواية النقادة .
وأيا ماكان الأمر ، فقد صادفت نظرية إميليو غرثية غومث هوى لدى نفر من الدارسين الإسبان ونظروا إلى النتائج التي توصل إليها بوصفها مسلمات لا ينبغي العدول عنها [71] ، منهم من اكتفى بالإشارة إلى صنيع غرثية غومث والإحالة عليه ، ومنهم من أخذته الحماسة وراح يعيد إنتاج ما كتبه غومث مقتضبا أحيانا ومفصلا في أحيان أخرى. بيد أن ثمة أبحاثا ودراسات غربية تظاهر نظرية تأثير حي بن يقظان في النقادة.[72]. لكنها تأتي دون سابقتها من حيث العدد والأهمية.
جونثالث بالنثيا والترويج لنظرية غرثية غومث:
من بين الذين روجوا لنظرية إميليو غرثية غومث ، المستعرب الإسباني أنخل جونثالث بالنثيا الذي أعاد ترجمة رسالة حي بن يقظان إلى الإسبانية عام 1934 ، بعد ترجمة بونز بويجس عام 1900 . وقد تجلى ذلك في موضعين ؛ الموضع الأول: من خلال ما كتبه جونثالث بالنثيا في المقدمة التي قدم بها لترجمته الإسبانية لرسالة حي بن يقظان إلى اللغة الإسبانية ، إذ ذكر فيها ما يلي : “التشابه المذهل بين رواية ابن طفيل والفصول الأولى من النقادة استرعى نظر الأب اليسوعي برتولوميه بو ، في القرن الثامن عشر ، وحلله ، بعد ذلك ، منندث إي بلايو في المقدمة التي كتبها للترجمة الإسبانية التي اضطلع بها بونز بويجس. لكن نظرا لأن الطبعة الأولى للنص الأصلي ومعها الترجمة اللاتينية التي قدمها بوكوك (1671) جاءت بعد صدور الطبعة الأولى من الجزء الأول من النقادة بعشرين عاما (1651)، تبددت الشكوك حول وسيلة الانتقال.[73] ومن ثم فإن قضية المحاكاة أصبحت موضع شك . والدراسة التي قدمها السيد إميليو غرثية غومث تبرهن على أن جراثيان استطاع أن يعرف القصة الشعبية بين الموريسكيين الأرغونيين ( وهي القصة التي جاءت في مخطوط محفوظ بمكتبة الإسكوريال بخط أرغوني يرجع إلى القرن السادس عشر) ، كما أن أوجه الشبه بين رواية اليسوعي الأرغوني والقصة الشعبية أكثر منها بين النقادة ورسالة حي بن يقظان لابن طفيل. فهذان العملان العظيمان من روائع الأدب الإسباني ، حي بن يقظان والنقادة مشتقان إذن من مصدر مشترك موغل في القدم يتجلى من خلال قصة تمثلها كل واحد من الكاتبين الكبيرين في شكل أدبي رائع من شأنه أن يتناغم مع الرسالة الفلسفية أو الرمزية التي استهدفها كل واحد منهما”[74].
وأما الموضع الثاني الذي روج فيه أنخل جونثالث بالنثيا لنظرية إميليو غرثية غومث ، فهو كتابه عن الأدب الأندلسي الذي صدر عام 1945 ، حيث نقل الموجز الذي ارتضاه غرثية غومث لرسالة حي بن يقظان [75] ، وكان هذا الأخير قد قبسه عن المستشرق الفرنسي ليون جوتييه[76] ، بتصرف يسير. وقد جاء موجز الرسالة كما أورده غرثية غومث على النحو التالي:
في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء ، وفي وسط ظروف طبيعية طيبة ، تولَّدَ طفلٌ من بطن أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينةٌ على مر السنين من دون أن يكون له أم أو أب. وفي قول آخر أن تيار البحر حمله إلى هذه الجزيرة في تابوت أحكمت زَمَّه أمُّه بعد أن أروته من الرضاع ، وكانت أميرةً مضطهدةً في جزيرةٍ مجاورةٍ ، فاستودعت ابنَها الأمواجَ حتى تنجيه من الموت. وهذا الطفل هو حي بن يقظان. فتبنته غزالةٌ وأرضعته وصارت له كأمه. ونما حي وأخذ يلاحظ ويتأمل. وكان الله قد وهبه ذكاءً وقاداً ، فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه ، بل استطاع أن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يدرك بنفسه أرفع حقائق الطبيعة وما وراءها. وقد وصل إلى ذلك بطريقة الفلاسفة ، بطبيعة الحال. وأدت به هذه الطريقة إلى أن يحاول ، عن سبيل الإشراق الفلسفي ، الوصولَ إلى الاتحاد الوثيق بالله، وهذا الاتحاد هو العلم الغزير والسعادة العليا المتصلة الخالدة في وقت واحد. ولكي يصل حيٌّ إلى ذلك دخل مغارة وصام أربعين يوما متوالية ، مجتهدا في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن جسده بواسطة التأمل المطلق في الله لكي يصل إلى الاتصال به ، حتى أدرك ما أراد. وعندما بلغ ذلك المبلغ لقي رجلا تقيا يُسمى أَسال أقبل من جزيرة مجاورة إلى هذه الجزيرة يحسبها خلاء من الناس. وقام أسال بتعليم الكلام لصاحبه المنفرد بنفسه والذي لقيه دون أن يتوقع ذلك. ولم يلبث أن وجد في الطريق الفلسفي الذي ابتكره حي لنفسه تعليلا علويا للدين الذي كان يعتقده ، وتفسيرا كذلك لكل الأديان المنزلة. ثم أخذ أسال صاحبه إلى الجزيرة المجاورة ، وكان يحكمها ملك تقي يسمى سلامان ، [وهو صاحب أسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة ويقول بتحريم العزلة ] ، وطلب إليه أن يكشف (لأهل الجزيرة) عن الحقائق العليا التي وصل إليها ، فلم يوفق ووجد عالمانا نفسيهما مضطرين آخر الأمر إلى أن يعترفا بأن الحقيقة الخالصة لم تُخلق للعوام ، إذ إنهم مكبلون بأغلال الحواس ، وعرفا أن الإنسان إذا أراد أن يصل إلى التأثير في أفهامهم الغليظة ، ويؤثر في إراداتهم المستعصية، فلا مفر له من أن يصوغ آراءه في قوالب الأديان المنزلة. وكانت نتيجة هذا أن قررا اعتزال هؤلاء الناس المساكين إلى الأبد ، ونُصحهم بالاستمساك بأديان آبائهم . وعاد حي وصاحبه إلى الجزيرة المهجورة لينعما بهذه الحياة الرفيعة الإلهية الخالصة التي لا يدركها إلا القلائل من الناس.[77]
والأساس الفلسفي لهذه القصة هو الطريق الذي كان عليه فلاسفة المسلمين الذين نهجوا على مذهب الأفلاطونية الحديثة . وقد صور ابنُ طفيل الإنسانَ الذي هو رمز العقل في صورة حي بن يقظان (واليقظان هو الله) ، ورمى ابن طفيل من ورائها إلى بيان الاتفاق بين الدين والفلسفة ، وهو موضوع شغل أذهان مفكري المسلمين كثيرا.
يضيف جونثالث بالنثيا:” أما القالب القصصي الذي اتخذه ابن طفيل سبيلا لعرض آرائه الفلسفية ، فقد درسه الأستاذ غرثية غومث دراسة علمية بالغة العمق ، ذهب فيها إلى أن هذا الهيكل العام للقصة مأخوذ من قصة “الصنم والملك وابنته”، وهي إحدى الأساطير التي نُسجت حول شخصية الإسكندر الأكبر ، ولابد أنها كانت معروفة عند أهل الأندلس ، فتناولها ابن طفيل وصاغها في قالب رمزي”[78] ، وفي هذا يقول غرثية غومث: “وقد وجد ابن طفيل في هذه الفكرة الأدبية – ذات الحيوية المتصلة والتي تبدو حقيقية وإن كانت من نسج الخيال – السبيلَ إلى عرض نظرية المفكر المتوحد في كتابات ابن سينا وابن باجة ، وقد وجدَ ابنُ طفيل فيها كذلك وسيلةً تتفق مع تفكيره اتفاقا بديعا ، بل ضمت هذه الحكاية موضعا مناسبا استطاع ابنُ طفيل أن يُفرغ فيه أفكارَه ، ومن هنا نتج هذا التأليفُ الجميلُ بين قصةٍ شائعةٍ وبين الأفكارِ الفلسفيةِ ، واستطاعَ ابنُ طفيل بأسلوبِه العذبِ ، الذي يفيضُ ابتكاراً ومنطقاً وقوةَ شاعريةٍ ، أن يخلق منها أثراً من أعظمِ ما أطلعتُه العصورُ الوسطى”.
وأطرف من هذا أن حكاية الصنم نفسَها هي التي أوحت إلى جراثيان فكرة كتابه المسمى النقادة. وقد استطاع كل من الأب بو ، ومنندث بلايو ، من بعده ، أن يظهر العلاقة الواضحة بين شخصية أندرنيو التي ترد في قصة ذلك اليسوعي الأرغوني ( أي جراثيان) وبين شخصية حي بن يقظان التي ابتكرها الفيلسوف المسلم. ولا نعرف كيف اطلع جراثيان على رسالة ابن طفيل التي لم تنشر في لغةٍ أوربيةٍ إلا سنةَ 1671. وقد أثبت غرثية غومث أن كتابَ النقادةِ أقربُ إلى قصةِ الصَّنمِ منه إلى رسالة حي بن يقظان ، وأدت به المقارنة بين الكتابين إلى القول بأن علة هذا التشابه هي أن جراثيان قلد هذه الأسطورة التي كانت متواترة بين الموريسكيين الأرغونيين ، من غير شك ، ومن أدلة ذلك أن مخطوط الإسكوريال الذي يضم هذه القصة مكتوب بحروف لاتينية أرغونية ترجع إلى القرن السادس عشر.
“والواقع أن قصة الصنم تتفق مع الرواية الثانية التي يوردها ابنُ طفيل عن أصل حي بن يقظان ، وهي التي تقول إنه لم يتولد من الطين بل إنه ثمرة علاقة غير مشروعة بين أخت الملك وأحد رجاله ، وهي رواية لا يذكرها الناس كثيراً. ذلك أن قصة الصنم تقول إن الأميرة حُجزت عن الناس في محبس لتنجو من طالع سيء تنبأ لها به العرافون ، فاستسلمت في محبسها لابن الوزير . وكلتا الأميرتين – في قصة الصنم وقصة حي – تضع وليدها في صندوق من الخشب ، وتلقي به في اليم دون أن يشعر بها أحد ، فتحمله الأمواج إلى الشاطيء ، ويستقر على الأرض ، وقد تصدعت جوانبه ، ويتحرك الطفل فتعطف عليه غزالة وتتبناه. وتذهب “قصة الصنم” إلى أن الصبي نما واهتدى ببصيرته إلى بدائع خلق الله. وقد استخدم ابنُ طفيل هذا القسمَ من القصةِ ليحشد فيه مذهبَه الفلسفيَّ ، ولكي يدلل فيه على ما بين العقيدة والأفلاطونية الحديثة من انسجام. وتلك هي الغاية التي استهدفها من تأليف قصته ؛ فهو يرينا كيف ينتقل “حي” من مجرد تأمل المظاهر الطبيعية إلى إدراك نشوة الاتصال بالله”.[79]
“وكذلك تتفق الحكايتان في حلقاتهما الأخيرة : فنجد قصة الصنم تقول إن الفيلسوفَ المعلمَ نفسَه لقي أباه الذي كان قد خُلع عن عرشه ونُفي عن بلاده ، وفي قصة ابن طفيل يلتقي “حي” بـ”أسال” العالم المتدين. وفي كلتا القصتين نرى الواصل إلى الجزيرة – بعد “حي” (والمعلم نفسه) –يظن أن كلا منهما شخص آخر مثله ، في حين أن حيا والمعلم نفسه يهربان ويروعان الرجلين روعا شديدا فيعكفان على الصلاة. وفي كلتا القصتين كذلك نجد حيا والمعلم نفسه يقترب من ذلك الشخص المجهول له في حذر ، ويتعجب من الصوت الإنساني أولَ سماعه. وفي قصة حي بن يقظان نجد أسال يلقن حيا اللغة ويحدثه عن الناس ، فيرغب في معرفتهم والذهاب إليهم. وتنتهي القصة بأن يعود مع صاحبه الناسك إلى الجزيرة ، بعد أن يئسا من متابعة الناس لهما في مذهبهما الديني. أما قصة الصنم فتنتهي بتعرف الابن وأمه الأميرة أحدهما للآخر”.[80]
“وقد كان اليسوعي بارتلوميه بو قد أشار في القرن الثامن عشر إلى هذا التشابه الجلي بين قصة حي بن يقظان والفصول الأولى من النقادة ، ثم قام منندث بلايو بتحليل أوجه الشبه بينهما في المقدمة التي كتبها لترجمة بونس بويجس لقصة حي (نشرت عام 1900). ولكن ، لما كانت رسالة حي بن يقظان قد نشرت للمرة الأولى مع ترجمتها اللاتينية سنة 1671 على يد بوكوك – أي بعد ظهور الجزء الأول من النقادة بعشرين سنة – فقد ظلت مسألة انتقال الفكرة من الكتاب العربي إلى كتاب جراثيان موضع شك ، لأن التشابهَ بين الكتابين أظهرُ من أن يُمارى فيه . فلما عثر غرثية غومث على قصة الصنم أسفرَ السرُّ بعضَ الشيء ، إذ إنه بيَّن في بحثه أنه من الممكن جداً أن يكون جراثيان قد عرف هذه القصة ، إذ كانت شائعة متواترة بين الموريسكيين ، وأيده فيما ذهب إليه أن التشابه بين قصة الصنم والنقادة أقوى من تشابه هذه الأخيرة وقصة ابن طفيل. وإذن ، فهذان الأثران الجليلان من آثار الأدب الإسباني قد نهلا من مورد واحد: قصة واحدة تناولها كل من المؤلفين ، وصاغها في قالب أدبي بديع ، وحمَّلها ما أراد عرضه من الآراء الفلسفية أو الرمزية”.[81]
خورخي مانويل والدفاع عن نظرية غرثية غومث:
من بين الباحثين الإسبان الذين ظاهروا نظرية غرثية غومث مظاهرة لا هوادة فيها خورخي مانويل أيالا . فقد أعد دراسة حول علاقة رواية النقادة برسالة حي بن يقظان ، تحت عنوان “النقادة لجراثيان والفليلسوف المعلم نفسه لابن طفيل”. وفي هذا الصدد نظر الباحث إلى القضية من زاويتين تاريخية ووصفية تحليلية لمضمون العملين ، متقيلا منهاج غرثية غومث ، لإبطال نظرية التأثير . فهو يرى أن كل الأدلة تظاهر أمرا مؤداه أن مطالعات جراثيان لم تتضمن أعمالا تابعة للفكر الإسلامي أو مصوغة باللغة العربية التي كان جراثيان يجهلها جهلا شاملا كاملا . وإذا كان جراثيان قد وردت لديه أسماء عربية ، فلا ينبغي أن نعلق عليها أهمية تذكر ، أو ندعي أنه كان على علم دقيق وثيق بالأجواء الثقافية العربية التي كانت سائدة على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر[82]. ومن البين أن خورخي مانويل أيالا بعزل مواطنه بلتسار جراثيان عن أي تأثيرات عربية ، في الوقت الذي كانت فيه الثقافة العربية مهيمنة على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر ، باعترافه هو ، متابع لباحث آخر هو كلاوس هجر.[83]
لم يقف الأمر بخورخي في عزل بلتسار جراثيان عن أي تأثيرات عربية وإسلامية عند هذا الحد ، بل ، إمعانا منه في ادعائه العريض ، يقول :” لا مرية في أن بلتسار جراثيان لم يكن لديه أدنى علم بالرواية الفلسفية رسالة حي بن يقظان. وأبعد من ذلك، على الأرجح ، أنه لم يتناهى إلى سمعه اسم مؤلفها ابن طفيل . فاسم أبو بكر “Abubacher” الذي يتردد كثيرا جنبا إلى جنب مع أسماء الغزالي، وابن ميمون، وابن رشد Avicebron في كتابات النصارى الأوربيين، لا يشير إلى أبي بكر بن طفيل كما كان يظن الناس زورا وبهتانا، ولكنه يشير إلى أبي بكر بن باجة Avempace. وعلاوة على ذلك، فمن غير المعقول أن نفكر في كيف يمكن أن يكون جراثيان قد توصل إلى معرفة رواية الفيلسوف المعلم نفسه إذا كان ريموندو لوليو نفسه لم يصل إلى مسامعه شيء عن هذه الرواية”.[84]
الغريب في الأمر : كيف يجلس بلتسار جراثيان على عرش الأدب الإسباني ، ويعد قمة من قمم الأدب في أوربا ، ويكون في عزلة عما تموج به أوربا من هيمنة للثقافة العربية والإسلامية ، على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر ، وهما القرنان اللذان يمثلان قمة ما وصل إليه الأدب في إسبانيا، إلى الحد الذي جعل فيه الإسبان هذين القرنين العصر الذهبي للأدب الإسباني. وقد انتشرت التأثيرات العربية في جنبات الأدب الإسباني بطول هذه الفترة على نطاق واسع . فكيف تصادف الثقافة العربية هوى في نفوس كثيرين من المجتمع الأدبي الإسباني وتخطئ جراثيان بحيث لم يعرف عنها شيئا على الإطلاق .
وفضلا عن ذلك ، لا يقل عما سبق غرابة ما ذكره خورخي مانويل من أن ابن طفيل كان مجهولا في القرن السابع عشر ، بحيث لم يكد بلتسار جراثيان يعلم عنه شيئا . ذلك شيء أغرب من الخيال ، خاصة وأن مفكرين أوربيين آخرين ذكروا أن رسالة حي ابن يقظان كانت منتشرة على نطاق واسع في الدوائر العلمية والفكرية والأدبية الأوربية .
على الرغم من أن إميليو غرثية غومث جعل الباب مواربا ، ولم يقطع برأي حاسم في مسألة تأثر جراثيان بابن طفيل ، تاركا الأمر للتاريخ ليقول فيها كلمته ، إما بتأكيد ما توصل إليه غومث أو بطرح مخرج آخر بشأن نظرية التأثير – فإن خورخي مانويل ألايا كان أكثر تشددا ، وأغلق الباب تماما في وجه أي محاولة جديدة لإيجاد مخرج للتشابه الكبير بين رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة. وهو يلقي بالمسئولية على عاتق إميليو غرثية غومث ، ويحمل كلامه فوق ما يحتمل ، ويخلع على آرائه يقينا مطلقا لم يقل به غومث نفسه . كل أولئك رغبة في أن يرسخ في الأذهان أن رواية النقادة كُتبت في عزلة شاملة كاملة عن أي معرفة برسالة حي بن يقظان . وفي هذا الصدد يقول خورخي مانويل ألايا :” الدلائل التي أوردها إميليو غرثية غومث ، في دراسته المطولة، كانت من القوة والحسم بحيث تتأدى بالباحث إلى أن يستبعد من دائرة اهتماماته ، بشكل نهائي، فرضية وجود علاقة قرابة بين كل من ابن طفيل وجراثيان. ومن جانب آخر ، فمن الصعب ، إن لم يكن مستحيلا ، الاعتقاد بوجود محاكاة بين العملين ، فإن عملا بلغ مبلغا عظيما من الدقة والإتقان في نوعه ، وهو رسالة حي بن يقظان ، من شأنه أن يكون مدعاة للاحترام أو المعارضة التنافسية ، ولكنه لن يكون أبدا باعثا على الرغبة في التقليد والمحاكاة، وبخاصة من قبل مؤلف في قامة جراثيان رفع الإبداع بوصفه الأداة التعبيرية الأسمى لقريحته الأدبية. فبين اثنين من كبار الفلاسفة ، يتميزان بالأصالة ، ليس ثمة متسع للمحاكاة ، لا في الأفكار [المعبر عنها ] ولا في الحكايات القصصية التي يتجلى فيها بوضوح الخصائص الذاتية الثقافية لكل منهما. وعلى النقيض من ذلك ، يتسع المقام لشيء من المحاكاة ، إذا كان الأمر يتعلق بقصة مجهولة المؤلف أو غير معروفة على نطاق واسع ، مثل قصة الصنم والملك وابنته”[85] .
هذه كلها انطباعات انفعالية وافتراضات ذهنية تستهدف عزل جراثيان عن أي مظهر من مظاهر التأثر بابن طفيل.
ويضيف خورخي مانويل فرضية ذهنية أخرى ، من خلال إعادة إنتاج أفكار إميليو غرثية غومث ، مؤداها أن استثمار عمل قصصي للتعبير عن رؤى فلسفية أهون بكثير من تحويل الأفكار الفلسفية المجردة إلى بنية سردية أو عمل قصصي . وأكثر من ذلك عسرا وأشد صعوبة أن يقتفي عمل فلسفي أثر عمل فلسفي آخر . “فتكيف الأفكار الفلسفية والغايات الأخلاقية مع قصة نازحة من أعماق التاريخ ووافدة من خارج الحدود، فضلا عما يتيحه من القدرة الهائلة على الإيحاء ، يبدو أمرا أكثر معقولية وقبولا من تحويل الرموز الفلسفية إلى عمل قصصي أو عمل فلسفي آخر ذي طبيعة مماثلة. فالقصة تتيح المجال لإدخال الأفكار الأخلاقية في حبكتها السردية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الاعتقاد بقدرة الأفكار الأخلاقية على إفساح المجال لعمل قصصي، أو التسليم بتحويل عمل فلسفي إلى آخر مشابه – من شأن كل أولئك أن يكلف الكثير”[86].
هذه الفرضية الذهنية التي آمن بها خورخي مانويل ، متابعا خطى سلفه إميليو غرثية غومث ، ليس لها ما يبررها ، من وجهة نظري ، فهي ليست من الحقائق التاريخية الراسخة التي تتسم بالثبات ، وتحظى بإجماع الناس . فثمة أمثلة تند عن الحصر تتلاقح فيها الأفكار الفلسفية مع غيرها ويتبادل الفن الأدبي مع الفلسفة المنفعة . فكل منهما يُقرض الآخر ويقترض منه . ودارسو الأدب المقارن ، أتباع المنهج التاريخي ، وسعوا دائرة مفهوم الأدب بحيث تتضمن أعمالا غير أدبية ، ما دام الأدب يستعير من غيره من المعارف الأخرى، ويتأثر بأعمال غير أدبية ومن بينها الفلسفة .[87]
لكن المغزى من كلام خورخي مانويل واضح ، وليس في حاجة إلى كد الذهن وإتعاب الخاطر لفهم مقاصده ومراميه. فهو يبني على هذه الفرضية الذهنية نتيجة مؤداها أن رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة ، من حيث كونهما عملين فلسفيين ، ليس ثمة متسع لأن يكون أحدهما متأثرا بالآخر أو مؤثرا فيه. وإنما وفد الاثنان على نبع فني واحد، استعارا منه الشكل القصصي، لتخفيف جهامة الأفكار الفلسفية وذهنيتها. فعلى “بعد في المسافة الزمنية التي تفصل بينهما والتي يصل مداها إلى خمسة قرون، عرف كل من ابن طفيل وبلتسار جراثيان استثمار عدد من العناصر الروائية لقصة الصنم والملك وابنته، من أجل أن يدعم كل واحد منهما أفكاره الفلسفية. فابن طفيل لجأ إلى هذا الصنيع لتخفيف جهامة التأمل النظري الخالص ، ومن وجهة نظر البعض ، في محاولة منه لإخفاء أفكاره الفلسفية ، في مواجهة السلفية الدينية المتشددة. ومن جانب آخر ، تصرف بلتسار جراثيان على هذا النحو “للجمع بين الجفافية الذهنية للفلسفة والجانب الترويحي الذي يتجلى من خلال الإبداع الأدبي”، في ضوء المعايير التي آمن بها هو نفسه. والخلاصة أن كلا من ابن طفيل وبلتسار جراثيان قد سلكا هذا المسلك مدفوعين إلى ذلك بالطبيعة المشتركة التي تجمع بينهما ، بوصفهما اثنين من الفلاسفة الرمزيين”[88].
على أن صنيع خورخي مانويل لا يخرج عما قرره إميليو غرثية غومث ؛ فقد ذكر هذا الأخير أن “الأعمال القصصية التي لها رواج بين الناس يستخدمها الفيلسوف الرمزي بوصفها مادة أولية لأبنيته الأسلوبية الاستعارية ، إذا رأى أنها مناسبة للوصول إلى أغراضه ومقاصده. فهل كان في ذرع ابن طفيل أن يزدري قصة تقع بين يديه بوصفها أفضل قالب يُفرغ فيه نظرياته الفلسفية ، إذ كانت هذه النظريات تتخذ شكل الأسطورة التي كانت تقليدية في المعرض الفلسفي للزمن؟! وبسبب الظروف والملابسات التاريخية الخاصة بالإسبان ، وبعد مرور خمسة قرون ألفى بلتسار جراثيان القصة ذاتها التي وقعت بين يدي ابن طفيل . فهل كان مطلوبا منه كذلك أن يستبعدها ويستهين بها ، خاصة وقد رأى فيها أنها أفضل بداية من شأنها أن تخطف الأبصار ، من أجل سلسلة من الرموز الأخلاقية؟”[89]
استخدام عام مشترك:
بخصوص التشابه الماثل بين رسالة حي بن يقظان ورواية النقادة حول نشأة كل من “حي بن يقظان” و”أندرنيو” في منطقة مقفرة من الوجود الآدمي ، بين الوحوش والحيوانات – يرى خورخي مانويل أنه من الاستخدام العام المشترك؛ فليس ابن طفيل أول من ابتدعه وليس له من فضل على جراثيان فقصة ” ولادة Andrenio لأبوين مجهولين، وتربيته عن طريق وحش في جزيرة غير مأهولة بالسكان، تشكل جزءا من الأدب الأسطوري الذي استخدمه كل من ابن طفيل وجراثيان، على حد سواء ، بحرية ، من زاوية النظر إليه بحسبانه من الاستخدام المشترك العام”[90]. ومن ثم تسقط نظرية التأثير والتأثر بشأن هذا التشابه بين العملين. وهذا التفسير يذكرني بكلام الجاحظ الذي يفرق فيه بين العام المشترك والخاص الذاتي إذ يقول: “والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك”[91] فكأن خورخي مانويل يريد أن يقول أن نشأة إنسان متوحد على متن جزيرة غير مأهولة بالسكان بين الوحوش الضارية أصبح ، منذ قديم ، الزمن أسطورة من الأساطير ومعنى مجردا ، يتعذر معه أن نخلع على أديب حصانة معينة ويكون من بعده متأثرين به . فهذه الأفكار العامة أشبه بالهواء الذي يتنفسه الجميع دون أن يقلل ذلك من أصالة كل فرد على حدة . ومن ثم فلا فضل لابن طفيل على جراثيان ، وليس جراثيان مدينا لابن طفيل بشيء.
اختلاف المقاصد والغايات بين العملين:
كلا العملين، الفيلسوف المعلم نفسه والنقادة، يقوم على بنية سردية روائية من الرموزالتي لا نهاية لدلالاتها. وقد جاءت كتابة العملين، على التوالي، مستهدفة غايات ومقاصد فلسفية وأخلاقية. ففلسفة ابن طفيل من شأنها أن تؤدي إلى ضرب من التصوف العقلاني ، في حين أن المشروع الفلسفي للنقادة أخلاقي: إذ ينطلق من معرفة واقعية للمرء من خلال عصره وينتهي به المطاف إلى تكوين رجل نموذجي من شأنه أن يجمع في نفسه كل الفضائل التي يكابدها من حيث كونه “شخصا” في عالم علينا أن نتعامل فيه مع الخداع في الدخول وفي الخروج، وفي بيئة اجتماعية يحل فيها الابتذال والتفاهة محل الرغبة في الانتصار والخلود. وبالتالي، فالعلم الذي يستخلص من النقادة هو علم “معرفة كيف نعيش”، وهو الهدف نفس الذي نخلعه بشكل تقليدي على الأخلاق أو الآداب العامة. ومن ثم فقد كرر جراثيان بإصرار أن هذه المعرفة لكيف نعيش إن هي إلا “فن” لأن مثل هذه المعرفة ليست بموجودة في التأمل النظري الخالص للمبادئ ولكن في تطبيقها الحكيم على الواقع الحيوي. ومن الطبيعي في كل الجوانب الأخلاقية أن نميز بين المبادئ والتطبيقات العملية، ولكن هذه المهمة الميتافيزيقية لم يضطلع بها جراثيان ، على الأقل بطريقة صريحة. وأما في رواية الفيلسوف المعلم نفسه فقد حدث العكس تماما الفيلسوف: فالفتى “المتوحد” ، عند ابن طفيل ، مدفوعا بما يمليه عليه عقله الطبيعي يرتفع إلى أفق التأمل في المبادئ النقية والتذوق الحدسي للجوهر الذي لا يتبدل.ومن ثم فنحن بإزاء ضربين من الفلسفة : الميتافيزيقية عند ابن طفيل ، والأخلاقية عند جراثيان[92].
وقد رد خورخي مانويل هذا الاختلاف في المقاصد والغايات بين العملين إلى اختلاف الظروف والملابسات التي أحاطت بكل منهما . فرسالة حي بن يقظان لم تنشأ في عزلة عما كان يموج به العالم الإسلامي من معتقدات وأفكار فلسفية ودينية ، منها ما نبت نباتا طبيعيا في البيئة العربية الإسلامية ، ومنها ما كان وافدا من مهابط شتى من خارج الحدود ، مثل الفلسفة الأفلاطونية . وقد أشار ابن طفيل نفسه ، في مقدمة الرسالة ، لاثنين من التيارات الفكرية التي كانت متداولة بين مفكري الإسلام، وهما التيار الأرسطي الأفلاطوني ، والتيار الصوفي . أما الأول فيمثله ابن باجة السرقسطي ، وأما الثاني فيمثله ابن سينا . وإجمالا .
في هذا السياق وضع خورخي مانويل رسالة حي بن يقظان لابن طفيل ” رغبة في أن تُفهم فهما دقيقا وثيقا بكل دلالاتها. ” وقد كان بين يدي ابن طفيل النموذج الفلسفي والأدبي لابن باجة ، إذ يعد عمله “تدبير المتوحد” واحدا من الأعمال التي سبقت الفيلسوف المعلم نفسه. ونظرا لأن أهداف العملين ومقاصدهما كانت واحدة ، لم يفعل ابنُ طفيل أكثر من تطوير بعض أفكار الفيلسوف ابن باجة السرقسطي. ومن ثم فالقرابة الروحية بين شخصيات ابن طفيل “حي” و”أسال” من ناحية و”المتوحد” عند ابن باجة من ناحية أخرى ، واضحة وضوح الشمس في ضحاها. وثمة تشابه آخر بين ابن طفيل وابن باجة في الشكل الأدبي الذي اتخذاه قالبا لعمليهما: إذ يتعلق الأمر برسالة موجهة لأحد الأصدقاء. وأما فيما يتعلق بالمحتوى الفلسفي لكلا العملين ، فيلاحظ كيف أن “حي” كان متوحدا بامتياز ، طفلا مهجورا في جزيرة غير مأهولة بأشخاص آخرين ، ومن ثم خلت خلوا شاملا كاملا من كل مظاهر التلوث الاجتماعي . “حي” عن طريق الاعتماد على عقله الذاتي الطبيعي ، فحسب ، نجح في الارتفاع إلى أفق المعرفة الضرورية للكائن ، والتحم به ليصل بهذه الطريقة إلى السرمدية. ولوصف الاتحاد مع (الواحد) ، وهي الغاية الأخيرة للإنسان ، يصطنع ابن طفيل الاصطلاحات الصوفية المستخدمة عند ابن باجة. الفرق بين الاثنين يكمن في أن وصول الإنسان لغايته الأخيرة ، لا يتوقف ، عند ابن باجة ، على حقيقة أن يعيش المرء في عزلة، فحسب ، وإنما بامتلاك الفهم الثاقب. وأما موقف ابن طفيل ، فعلى النقيض من ذلك ؛ إذ يوضح أن كلا الأمرين لا محيص عنهما: فإذا كان “حي” قد استطاع أن يرتفع إلى أفق (الواحد) ، من خلال عزلته ، فما كان له أن يصل إلى ذلك إلا عن طريق ملكاته العقلية ، التي أسهمت ، كذلك، في الوصول إلى هذه المرتبة”[93].
بعد عرض الأفكار الأساسية التي تدفقت في شرايين رسالة حي بن يقظان ، وتلك التي تضمنتها رواية النقادة ، في ظل ظروف وملابسات مختلفة، واستهدافا لغايات ومقاصد مختلفة – ينتهي خورخي مانويل إلى استبعاد تأثير “الرسالة” في “الرواية” إذ “كيف للفلسفة التي اقتات منها كل من العملين اللذين تفصل بينهما سنوات ضوئية ، وهو فرق ظاهر للعيان ، مع ملاحظة تغير سيناريو الأحداث والأدوار العقلية المختلفة التي اضطلعت بها شخصيات العملين فحسب – أن تؤثر إحداهما في الأخرى”[94].
اختلاف بناء الشخصيات:
يتخذ خورخي مانويل من اختلاف بناء الشخصيات في “الرسالة” و”الرواية” ذريعة لإثبات بطلان نظرية تأثير ابن طفيل في جراثيان . فهو يرى أن الحجج المقدمة من المدافعين عن نظرية التأثير قد تأسست على التشابه ، الذي رآه أصحاب هذا الرأي ، بين حي وأندرنيو من ناحية ، وبين أسال وكريتيلو من ناحية أخرى. وهو تشابه لا أساس له على الإطلاق ، من وجهة نظره ؛ “فشخصية حي المتوحد ، عند ابن طفيل ، إن هي إلا شخصية إنسان يمعن التأمل في الأشياء ، ولديه ثقة في نفسه ، وقادر على أن يصل إلى درجة الوجد العقلي بدوافع عقلية ذاتية [ أي من تلقاء نفسه ودون ضغوط من عوامل خارجية]. وعلى النقيض من ذلك ، تأتي شخصية أندرنيو المتوحد ، عند جراثيان ، وهي شخصية تتسم بالهشاشة الخالصة والوهن ، وعلى الرغم من أنه على قدر من الإحساس والشعور لكنه لا يفكر ولا يصطنع معايير ذاتية للتفكير ، لذلك فهو عرضة للوقوع بشكل دائم في دائرة الخداع؛ لأنه لا يعرف التمييز بين ظاهر الأشياء وحقائقها الجوهرية. ويحتاج ، بشكل ثابت ، إلى مرشد ، وهذا الأخير سيكون كريتيلو”[95].
“وفيما يتعلق برفيق حي وهو أسال ، فهو رجل آت من العالم الاجتماعي، لكنه خرج منه بحثا عن الوحدة والعزلة ، وهربا من عامة الناس، بعد أن خاب أمله خيبة شاملة كاملة فيهم. وأما كريتيلو ، فهو رجل ذهب إلى الجزيرة ، حيث ألفى أندرنيو. وكريتيلو رجل اجتماعي ، عاش في العالم ولم يتذمر منه أو يضق به ذرعا ؛ لأنه يراه البيئة الطبيعية ، التي ينبغي على المرء أن يطور ملكاته الطبيعية فيها. كريتيلو وهو راسخ على أرض صلبة من الخبرات و التجارب ، يعرف كيف يتصدى للصعوبات التي تقدمها الحياة الاجتماعية. حيٌّ وأندرنيو شخصيتان متوحدتان كبيرتان لكنهما عاشتا حياة العزلة كل بطريقة مختلفة . فالوحدة بالنسبة لحي إن هي إلا تعبير عن حالة من الرفق واللطف الخاص بالطبيعة التي لم تفسد بعد بفعل الحضارة ؛ ولهذا السبب نفسه فإن العقل الطبيعي قادر على أن يرتفع من تلقاء نفسه لأعلى قمم التأمل والتفكير. وأما بالنسبة لأندرنيو ، فإنه ، على النقيض من ذلك ، يرى أن الطبيعة المادية عكس ذلك تماما ، والطبيعة الإنسانية ، وإن ولدت على درجة أدنى للغاية من الكمال ، فإنها ، مع ذلك ، قابلة لأن تصل إلى الكمال من خلال الجهد المبذول والتجارب التي يبلوها الإنسان. فما دام المرء لم يتعلم الكلام ويكتسب الثقافة باللغة سيظل في حالة نقصان شامل كامل ؛ إذ الكلام واحد من آثار العقل الكبرى”[96].
الفلسفة والأخلاق بين ابن طفيل وجراثيان:
وفيما يتعلق بموقف كل من ابن طفيل وبلتسار جراثيان من الفلسفة والأخلاق، فقد ذهب خورخي مانويل إلى أن الأخلاق عند ابن طفيل “لا تشكل معرفة مستقلة تقوم غايتها الخاصة على إدارة الأحداث وتوجيهها حسب طبيعتها الخاصة ؛ إذ يترتب على ذلك أن الحيوانات تزاول سلوكياتها وأفعالها الخاصة ، على نحو أكثر اكتمالا أو أفضل حالا مما يستطيعه بنو الإنسان ، الأمر الذي من شأنه أن يسوغ لنا أن نقول : إن الحيوانات، كذلك ، لديها أخلاق. ومن ثم فإن الأفعال في ذاتها لا مبالاة فيها وليست بذات أهمية. فالفلسفة فوق الأخلاق ، كما أنها هي ، وهي وحدها ، الضمانة الحقيقية لحياة عامرة بالفضائل والسعادة . وقد عبر واحد من المتصوفة العقلانيين في العصر الحديث عن هذه الفكرة ، وهو بنيتو اسبينوزا Benito Espinosa قائلا:”في ضوء ما أبرزناه فإن الطريق الذي يقود إلى هذا الاكتساب يبدو أنه عسير للغاية. وهذا العسر ، على نحو يقيني ، هو ما ينبغي أن نعثر عليه ، بشكل نادر وغريب. وفي الحقيقة فإن طريق الإنقاذ إذا كان في متناول اليد ، ويمكن الوصول إليه والحصول عليه ، دون كبير عمل ، فإننا نتساءل: كيف يتأتى للجميع أن يزدروا هذا الطريق ويهونوا من شأنه؟ لكن كل ما من شأنه أن يكون ساميا رفيع الشأن يعد أمرا عسيرا لأنه شيء نادر”[97].
إذا كان ابن طفيل قد أعلى من قيمة الفلسفة ووضعها في مكانة أسمى من الأخلاق ، من وجهة نظر خورخي مانويل ، فقد اختلف الوضع بين يدي بلتسار جراثيان الذي مجد الأخلاق وارتفع بها إلى سماوات عليين بحسبانها الأداة التي إن تمسكنا بها لن نضل معها أبدا . وفي هذا السياق يقول خورخي مانويل :”والواقع أن الوضعية النظرية لجراثيان، بخصوص الأخلاق ، جاءت مختلفة للغاية عنها عند ابن طفيل، إلى الحد الذي أصبحت معه رواية النقادة عملا أخلاقيا من الناحية الجوهرية؛ إذ تركزت كلها على وصف الحياة الفردية والاجتماعية. وقد حدد جراثيان الحياة بأنها مشكلة وهدف ينبغي أن نمسك به وألا نفلته من بين أيدينا، ثقافيا وعقليا. وفضلا عن ذلك ، فقد كان جراثيان متشبعا بفكرة التفاؤل ، فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية والمجتمع الذي ظل ثابتا ، لم يطرأ عليه تغيير، في تحليل الأفعال الإنسانية ، من جهة مقاصدها وغاياتها والسيطرة الممكنة عليها. ففي عالم يصبح فيه كل شيء مزيفا ونكون نحن عرضة لأن نسقط ضحايا لنواياه الشريرة في أي لحظة – يعتقد جراثيان أنه لم يبق لنا من مخرج سوى أن نتسلح بالفضائل المقاتلة: وهي الحذر والاحتياط والحكمة والتبصر. فـ”معرفة الآخرين ، وعدم قدرة أحد على أن ينال منك” هي الفضائل التي أجملتها الجمل الاصطلاحية للأخلاق عند جراثيان”[98].
على أن الفوارق بين كل من جراثيان ومؤلف رسالة حي بن يقظان في الوسط الأخلاقي والقيمي لا نهاية لها. ففيما يتعلق بالطبيعة ، على سبيل المثال، يمتلك حي قدرا كبيرا من النبوغ الميتافيزيقي : وقد تأدى به إلى أن يعتقد أن سائر الرجال الآخرين لم يصلوا بعد إلى المستوى الصوفي العقلاني الذي وصل إليه وحصل عليه ، بجهده العقلي الذاتي. وأما البيئة الرعوية ، المسالمة التي ولد فيها ، فتنضح تفاؤلا من حيث مظاهر الرفق التي تتجلى في هذه البيئة الطبيعية. لكن يا لها من مختلفة تلك الحالة الخاصة بأندرنيو. والجامعة التي تجمع بين كل من ابن طفيل وجراثيان ، في حقيقة الأمر ، تتمثل في تشاؤمهما فيما يخص المجتمع الإنساني. فعندما قام حي بزيارة الجزيرة المأهولة بالسكان ، يرافقه في ذلك أسال ، اكتشف قارة إنسانية ما كان له أن يتخيلها. وقد رجع الاثنان إلى جزيرتهما المهجورة بخيبة أمل. وأما جراثيان ، من جانبه ، إذ كان حاضرا لديه رجل واقعي ، رجل من عصره ، رجل كان يعيش في قلب عصر زاخر بالنزعة الجمالية ، لكنه كان عصر انحطاط أخلاقي وسياسي- لم يسرف ، كذلك ، في تفاؤله . كان جراثيان على قناعة بأن أصل الشرور الإنسانية كلها ، تقريبا ، مرده إلى المجتمع ؛ فالمجتمع هو الذي أوهن جانبا من الرفق الطبيعي المركوز في الإنسان وأدى إلى تصدعه. لذلك يتكلم عن ازدواجية الإنسان أو أحواله المختلطة: “فالمرء يكون في آن واحد حمامة وادعة وثعبانا مسموما”. لذلك فهو يشير ليس إلى الكيفية التي يكون بها الإنسان في ذاته من حيث كونه إنسانا فحسب ، وإنما إلى الصيرورة التي وصل إليها. الإنسان الذي يتحدث عنه جراثيان إن هو إلا امرؤ يعيش مخدوعا ، لكنه ، مع ذلك ، لا يزال يحتفظ بإمكانيات استرداد ذاته، إذا سلك طريقا يزيل به أسباب هذا الخداع.
تأثير رسالة حي بن يقظان في المسرح الإسباني:
في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ظهر في إسبانيا نص مسرحي يحمل عنوان “الكلمة الثالثة” La tercera palabra للكاتب المسرحي الإسباني أليخاندرو كاسونا Alejendro Casona. وقد مُثِّلَ هذا العمل المسرحي على خشبة مسرح أوديون Teatro Odeón في عاصمة الأرجنتين بوينوس أيرس في التاسع والعشرين من مايو عام 1953. ثم مُثِّل على مسرح ماركينا Teatro de Marquina في العاصمة الإسبانية مدريد في العشرين من أكتوبر عام 1964. وقد استمرت العروض المسرحية لهذا العمل أربعة أعوام متتالية بدون توقف. ثم عادت المسرحية للظهور مرة أخرى على خشبة المسرح في مدريد عام 1992 . وفيما يتعلق بالسينما فقد أصبحت المسرحية فيلما سينمائيا في المكسيك عام 1955. وفي عام 1978 قُدمت على هيئة عمل تليفزيوني في التليفزيون الإسباني . وبذلك تكون المسرحية قد أخذت طريقها إلى الجمهور من خلال وسائل فنية مختلفة هي المسرح والسينما والتليفزيون ، إضافة إلى النص والمكتوب. وهذا الأخير هو الذي سنعول عليه في الكشف عن علاقة هذه المسرحية برسالة حي بن يقظان لابن طفيل.
تحكي هذه المسرحية قصة فتى يدعى بابلو Pablo ، عاش في الأدغال منذ ولادته، في عزلة شاملة كاملة عن المجتمع الإنساني ، باستثناء والده الذي كان مرافقا له . وقد كان هذا الأخير قانطا من المجتمع البشري . وفي أعقاب موت أبيه ظل بابلو وحيدا فريدا في مجتمع الغابة يحيا بين الطيور والحيوانات كأنه واحد منها ، ولا يفرقه عنها سوى هيئته الآدمية . في تلك اللحظات قررت عمتاه أنخلينا وماتيلدا القيام على رعايته والعناية به ، وفي محاولة منهما لإعادة دمجه في المجتمع الإنساني أحضرتا له معلمين لتعليمه اللغة التي يتخاطب بها بنو الإنسان ؛ رغبة في أن يكون قادرا على التعايش مع الناس والتواصل معهم ، إذ يقيم بين ظهرانيهم . غير أن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل ، لعجز المعلمين عن ترويض بابلو والعنف الذي كان يصطنعه الفتى مع معلميه لدرجة أنه ، وقد ضاق ذرعا بالمعلم الثالث ، ألقى به من النافذة . ثم جيء بمرجريتا ، وهي فتاة حديثة التخرج في الجامعة ، لتضطلع بالمهمة التي عجز عنها أسلافها الأولون . وبعد محاولات نجحت مرجريتا فيما فشل فيه السابقون ، واستطاعت أن تتألف بابلو وتروضه وتعلمه اللغة البشرية بعد أن كان يتعامل بأداة الاتصال الوحيدة التي كانت تصطنعها الحيوانات والطيور في الغابة ، وهي لغة الطيور والحيوانات.
هذه المسرحية مكونة من ثلاثة فصول . في الفصل الأول نُلفي الشقيقتين ماتيلدا وأنخلينا تنتظران وصول الآنسة مرجريتا لوخان Margarita Luján من محطة القطار ، حيث تعهدت هذه الأخيرة كتابةً بالاضطلاع بمهمة تعليم الطفل بابلو وتربيته.
ما كان مخبأ لها وما كانت تجهله الآنسة مرجريتا لوخان أن بابلو لم يكن طفلا كما تخيلت ، وإنما كان شابا بلغ من العمر أربعة وعشرين عاما. وكان والده بابلو سلدانيا Pablo Saldaña رجلا نبيلاً في سعة من المال وذا وجاهة اجتماعية وكان ، بالإضافة إلى ذلك ، مثقّفاً وصيّاداً ماهرا عالما بفنون الصيد لا يجارى. وكان يحب زوجته حباً جماً. رزق الزوجان ولداً واحداً هو بابلو. وذات يوم تلقى بابلو سلدانيا طعنة غادرة في شرفه ؛ إذ اكتشف خيانة زوجته التي آثرت الهرب من البيت مع عشيق لها. فأصيب الرجل بإحباط كبير، وقرر أن يربي ابنه ، الذي كان حديث الولادة، في عالم آخر هو عالم الطبيعة بكل ما فيها من قسوة ونقاء ، مبتعداً بذلك عن عالم الحضارة الإنسانية المليء بالمخازي والأكاذيب ، ومن بينها أكذوبة الحب الممزوج بالخداع.
توفي الأب قبل أن يحقق أمنيته، وعادت حضانة الابن إلى حمى عمتيه ماتيلدا وأنخلينا. أما الأولى فقد مات عنها زوجها ولم يترك لها أبناء ، وأما الثانية فلم يسبق لها الزواج وعاشت حياتها في رعاية شقيقتها ماتيلدا. بعد وفاة الأب انشغلت ماتيلدا وأنخلينا بإعادة دمج الفتي بابلو في المجتمع الإنساني ، بعد أن سلخ من عمره أربعة وعشرين عاما بين الحيوانات والطيور، على متن جبل ، في عزلة تامة عن أي وجود بشري . وفي محاولات منهما لترويضه وتطبيع العلاقات بينه وبين المجتمع الإنساني ، استدعت الشقيقتان عددا من المعلمين لتعليم بابلو القراءة والكتابة. لكن أحدا من هؤلاء المعلمين لم يكمل مع بابلو أسبوعا واحدا ، فقد أخفقوا جميعا ؛ نظرا لوحشية الفتى الذي استعصى على الترويض ، وكان يجهل الحضارة الإنسانية جهلا شاملا كاملا ، ولم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة . شيئان اثنان فحسب كان بابلو على علم دقيق وثيق بهما ، وقد تعلمهما من خلال إقامته بين الوحوش في الجبال ، وهما “الشيئان اللذان يزلزلان كيان الإنسان ويجعلان الأرض تميد من تحت قدميه: (الموتُ) و(الله)”[99]
في خضم هذه الظروف والملابسات جاءت الآنسة مرجريتا التي أُصيبت بصدمة فور وصولها ؛ إذ اكتشفت أن بابلو لم يكن طفلا كما تخيلت ، وإنما كان شابا بلغ من العمر أربعة وعشرين عاما. ولما كانت البداية تفوح منها رائحة الكذب همَّت مرجريتا بالعدول عن مهمتها وقررت مغادرة المكان والعودة من حيث جاءت . لكن تحت إلحاح العمتين ماتيلدا وأنخلينا وتوسلهما إليها بأن تمنح نفسها فرصة لقاء بابلو ، وبعد ذلك تقرر إما الاستمرار معه أو الرحيل- قررت مرجريتا البقاء.
وفي المسرحية شخصيتان تمثلان الجانب المظلم وعناصر الشر في المجتمع الإنساني هما رولدان Roldán خال بابلو وشقيق أمه الخائنة الهاربة ، وابنه خوليو رولدان Julio Roldán أما أولهما وهو خال بابلو ، فكان مديرا لأعمال البيت والمسئول عن إدارة ثروة بابلو الطائلة ، وأما الثاني فكان محاميا للأسرة . وقد كانا شخصين لا يقلان شرا عن أم بابلو الخائنة الهاربة ؛ فقد انطوت نفساهما على الحقد والكراهية والبخل ، وكانا لصين يستهدفان الاستيلاء على ثرة بابلو تحت أي ذريعة.
لم يكن اللقاء الأول الذي جمع بين مرجريتا لوخان وبابلو هادئا ، فقد تخللته أشياء من العصبية وسوء الفهم ، وقد مر هذا اللقاء مر السحاب . لكن مع تعدد اللقاءات بينهما نجحت مرجريتا في أن تتألف شخصية بابلو النافرة وتخفف من حدة التمرد لديه وتُطَبِّع العلاقات معه . وفي هذه الأثناء بدأت تنمو شيئا فشيئا قصةُ حب بينهما إلى أن وصلت إلى غرام ملتهب . على ضفاف هذه العلاقة الغرامية تعلم بابلو القراءة والكتابة والتأقلم مع قواعد السلوك الاجتماعي على يدي معلمته مرجريتا . وعلى الجانب الآخر تعلمت مرجريتا ، على يدي بابلو ، لغة الطيور والحيوانات ومهارة الصيد. وإذ كانا في رحلة صيد سألها بابلو إن كانت مسرورة . فأجابت مرجريتا : “إني لأشعر بقدر هائل من السعادة ، فقد أدخلت في دمي هواء الغابة كله ، وإني لجائعة جوعا شرسا”[100].
عندما قرر بابلو الزواج من مرجريتا ، يظهر خوليو رولدان ابن خاله ، وإذ ألفى هذا الأخير مرجريتا ، التي كان عاشقا لها من قبل ، عزم على تفجير الأوضاع محاولا إرغام مرجريتا على إجبار بابلو على التوقيع على بعض الوثائق . لم يقف الأمر بخوليو عند هذا الحد ، وإنما قرر بالاتفاق مع والده رولدان منع هذا الزواج بأي ثمن .
أشعل خوليو سعير الغضب لدى كل من بابلو ومرجريتا ، وضيَّقَ الخناق على هذه الأخيرة حتى تعترف لبابلو أنها كانت عشيقة له . فاضطرت مرجريتا أن تكشف لحبيبها بابلو عن ماضيها مع هذا الوغد خوليو ، قائلة:
- استمع إليَّ يا بابلو ! أقسم لك أنني أبذل حياتي لأجنبك الضرر الذي تلقاه مني . لكنني لا أريد أن تبقى بيننا كذبة واحدة . هذا الرجل كان عشيقي ذات يوم.
- ماذا قلتِ ؟ لا … مستحيلٌ أن أكون قد سمعتُ جيدا.
- أتفهم موقفك يا عزيزي . ويبدو لي الأمر صعبا كذلك . لكن هذا الرجل الذي لا يثير فيَّ إلا النفور والاحتقار ، كان عشيقي.
- (متجهماً) لا ، يا مرجا! قولي إن الشمس لن تطلع غدا … قولي إن العالم سينفجر في هذه اللحظة. سأصدق كل ما تقولين إلا هذا!
- ماذا يفيد السكوت ؟ فلابد من أن تعرف ذات يوم. والأفضل أن أقوله لك أنا . فعلى الأقل يكون أوضح.
- إذن، الأمر صحيح؟ أنت التي كنتُ لا أستطيع أن أُقبِّلها دون أن أرتعد من رأسي إلى أخمص قدمي! أنت القديسة الوحيدة … أنت أيضا.[101]
عندئذ بدأ يدرك بابلو الأسباب التي تأدت بأبيه إلى أن يباعد بينه وبين هذا المجتمع الإنساني الآسن، الزاخر بالضلال والأكاذيب ، الملطخ بالرذائل والنقائص ، وأن يهرب به إلى عالم الأدغال حيث الوحوش الضارية ، وحيث لا ظل لبشر ، في عالم أكثر نقاء مما يموج به المجتمع البشري . ثم طلب من مرجريتا أن تنهي علاقتها به وأن تبرح المكان لتلحق بخوليو عشيقها القديم.
ويدور بينهما حوار ارتفعت فيه النبرات من الجانبين ووصل الغضب إلى مداه ، وكلٌ يبحث عن كرامته وكبريائه ، لتقول له مرجريتا : “إن كان ثمة شخص مدين لي فهو أنت”. فرد عليها بابلو قائلا:” أنا لا أريد أن أكون مدينا بشيء لأحد”. قالت له مرجريتا :” لِمَ لا تأمر بتفتيش أمتعتي كما يُفعل بالخادمات السارقات ؟! لعلي أكون قد اختلست شيئا من جواهر العائلة وآنيتها الفضية؟!” فما كان من بابلو إلا أن قال لها : “لقد اعتدت أن يسرقني الجميع”. عندئذ واجهته مرجريتا بالحقيقة التي زلزلت كيانه قائلة: “أحقاً ما تقول ؟! إذن عُدَّ قطرات دمك لترى إن كان ينقص منها شيء، لأني أحمل خير ما في بيتك. أحمل طفلا!” ثم همت مرجريتا بالخروج ، فاعترض بابلو سبيلها محاولا منعها ، مقسما لها أنها لن تبرح المكان حتى تضع مولودها ، وعندئذ تعود هي إلى المجتمع الإنساني ، ويهرب هو بابنه إلى الجبل ، كما فعل أبوه من قبل. جاء رد الفعل من قبل مرجريتا بنبرة من الغضب المزمجر :
- هذا لن يحدث أبداً. سيكون ابني أكبر عمل في حياتي ، بكل ما فيك من حسن ، وكل ما فيَّ من سوء. سيكون إنسانا سويا على خلق عظيم بكل ما تدل عليه كلمة الإنسان من دلالات صحيحة . أتسمعني ؟ وأخيراً أريد أن أكون أماً لإنسان حقيقي مكتمل الإنسانية.
ثم تسقط مغشيا عليها ، فيحملها بابلو بين ذراعيه ويضعها على مقعد قرب المدفأة : وهو يصرخ بأعلى صوته مكررا اسمها مرات ، ثم يقول:
- لم أكن أدري ما أقول . وما كنت بمستطيع تقبل فكرة أن يلمس رجلٌ آخر شعرة واحدة من شعرك الذي كان غايتي الوحيدة . أفيقي يا مرجا ! انظري إليَّ باحتقار . لكن دعيني أرى عينيك . اشتميني إن شئت . لكن دعيني أسمع صوتك . مرجا! … مرجا!…!
عندئذ ينفجر رعدٌ ، ويخفق برقٌ خاطفٌ من الحديقة . يقف بابلو مبهورا إزاء ومضة الضوء ، وهو يقول : لك الشكر الجزيل يا ألله . وفي هذه الأثناء تبدأ مرجريتا في الإفاقة واستعادة وعيها شيئا فشيئا . وقد خامر بابلو شك أنها على وشك الموت ، فطلب منها مسامحته ، واعترف بحبه لها . في هذه الأثناء انبثق من بين شفتي مرجريتا الشيء الثالث الذي يزلزل حنجرة الإنسان ، السر الثالث الذي يقف من حقيقتين كبريين هما الله والموت . وهو “الحب” . تضمه مرجريتا إلى حضنها وتداعب رأسه المهزوم : الحب … الحب… الحب. ( ثم يسدل الستار). وهذه هي الكلمة الثالثة التي استهدفت المسرحية الوصول إليها.
علاقة المسرحية برسالة حي بن يقظان:
أثارت هذه المسرحية ، منذ عرضها الأول ، جدلا بين النقاد الغربيين، حول مغزاها ومصادرها. فقد ذهبت بعض الدراسات النقدية إلى أن مصادر الإلهام التي اعتمد عليها أليخاندرو كاسونا هي مسرحية “الساذج” لفولتير ، أو “إميليو” لجان جاك روسو. وقد استاء أليخاندرو كاسونا من سوء تقدير النقاد الغربيين للمسرحية ؛ إذ ضلوا السبيل من أجل الوصول إلى مصادر الإلهام الحقيقية التي أوحت للمؤلف بكتابة المسرحية . جاء رد فعل كاسونا الغاضب في رسالة شخصية أرسل بها إلى صديقه الناقد الإسباني فيديركو كارلوس روبليس Federico Carlos Sainz de Robles ، وقد نشر هذا الأخير جانبا من الرسالة في المقدمة التي كتبها للأعمال الكاملة لأيخاندرو كاسونا جاء فيها:
“ذكر النقاد بيجماليون ، مستفيدين من هذا التوافق السعيد ، بوجود معلمة في المسرحية وتلميذ أكبر منها . وبعضهم أوحى على استحياء باسم إميليو ( وقد ذكره روسو في المسرحية ) . وبعضهم كان أكثر جرأة فتذكر كنديد لفولتير ، ليكشفوا النقاب دفعة واحدة عن أنهم لم يفهموا من المسرحية شيئا ، وأنهم لم يقرأوا كنديد . فبطل مسرحية الكلمة الثالثة هبط من الجبل دون أن يكون قرأ كتابا واحدا ، بينما نشأ كنديد نشأة كاملة متحذلقة بين أحضان كتب الدكتور بنغالوس . كان غرض فولتير مناهضة مفهوم ليبنيتز الفلسفي المتفائل . ولم يشر أحد إلى الأسلاف الإسبانية لبطل مسرحية الكلمة الثالثة ، فلم يلقوا بالا إلى الفيلسوف المتعلم ذاتيا (رسالة حي بن يقظان ) لمواطننا العربي الغرناطي ابن طفيل ، ولا إلى ابنه المباشر أندرنيو ، الذي يشغل الفصول الأولى من النقادة لبلتسار جراثيان ، ولا تجسده الدرامي الأسمى في الفصل الأول من مسرحية الحياة حلم ، وقد ذكرت عمدا في المسرحية أيضا . وبالإشارة إلى العنوان ، فإنه لم يلحظ أحد أيضا أن الكلمات الثلاث الكبرى : الله ، والموت ، والحب ، تلتقي ، ليس لفظيا ، وإنما يُعبر عنها بحضور درامي ، لحظة الختام ، حول المقعد الذي ترقد فيه مارغا مغشيا عليها . لا يُهمني أن يُبحث لأبطالي عن سوابق مألوفة – وقد ذكرتها بوضوح شديد ، وعن رضا – لكن ما لا أغفره هو أن يخطئ الناقد هذا الخطأ البين بعنوان منزله ، ومدينته … بل وبلده”[102].
ومن البين أن تجاهل النقاد الغربيين لعلاقة مسرحية “الكلمة الثالثة” لأيخاندرو كاسونا “برسالة حي بن يقظان” لابن طفيل يعيد إلى الأذهان ما أقدم عليه إميليو غرثية غومث من محاولة إنكار علاقة “الرسالة” برواية “النقادة” . غير أن مؤلف المسرحية كان ذا ضمير علمي حي ؛ إذ كشف عن مصادره الحقيقية ، ومن بينها رسالة حي بن يقظان . ولم يشعر المؤلف بشيء من الخجل لاستلهامه عملا فلسفيا عربيا ؛ لأن أصالته لا تتعارض مع الاستفادة من أي عمل أدبي ، بصرف النظر عن هويته وجنسيته . لم يكتف كاسونا بهذا التصويب لما أقدمت عليه الدراسات النقدية الغربية من تجاهل رسالة حي بن يقظان ، وإنما أضاف أمرا آخر يتعلق بعلاقة الرسالة برواية النقادة . فهو إذ يقول أن “أندرنيو” بطل رواية “النقادة” هو الابن الشرعي “لحي” بطل “رسالة حي بن يقظان” ، فإن في هذا اعترافا صريحا بعلاقة التأثير والتأثر بين الرسالة والرواية ، واحتجاجا على صنيع إميليو غرثية غومث ومن والاه بشأن تجاهل تأثر بلتسار جراثيان بابن طفيل.
وأما عن وسائل اتصال أليخاندرو كاسونا برسالة حي بن يقظان ، فلم يقل عنها شيئا ، فحسبه الإقرار بتأثره بالرسالة واعترافه بأنها أحد مصادر الإلهام التي أوحت له بكتابة المسرحية . لا جرم أن أليخاندرو كاسونا قرأ رسالة حي بن يقظان في إحدى ترجمتيها الإسبانيتين الموجودتين ، إما الترجمة التي قام بها فرانثيسكو بونس بويجس ، وكتب مقدمتها مارثلينو منندث بلايو، ونُشرت في سرقسطة عام 1900، وإما في ترجمة أنخل جونثالث بالنثيا ، التي نشرت في مدريد عام 1934. وربما طالع الرسالة من خلال الترجمات الأوربية الأخرى.
وجوه الشبه بين الرسالة والمسرحية كثيرة ، يبرز من بينها أن بطل المسرحية (بابلو) نشأ بعيدا عن أمه التي ولدته ، في منطقة جبلية غير مأهولة بالسكان ، بين الحيوانات والطيور. ولكن على الرغم من تعايشه مع الطيور والحيوانات وتعامله معها باللغة التي بها يتواصلون ، استطاع أن يهتدي بعقله إلى عدد من الحقائق الكونية الكبرى التي تتعلق بالموت والحياة ، وعلاقة الإنسان بالله. وهذا عين ما حدث لحي بن يقظان بطل الرسالة ، مع اختلاف في النِّسب والدرجة . فشخصية (بابلو) تشبه شخصية (حي) . فكلاهما كان يتقن لغة الحيوانات والطيور ويجهل اللغة التي يتواصل بها بنو آدم في المجتمعات الإنسانية . كما أن شخصية مرجريتا ، في المسرحية ، تشبه شخصية أبسال ، في الرسالة ، من حيث الدور الذي اضطلع به كل واحد منهما في تعليم الفتى المتوحد القراءة والكتابة والكلام.
جاءت مسرحية كاسونا تحت عنوان (الكلمة الثالثة) . وهي كلمة (الحب) التي ستتجلى في المشاهد الأخيرة من المسرحية . أما الكلمتان الأوليان فهما كلمة (الموت) وكلمة (الله). وقد اهتدى بابلو بفطرته النقية التي فطر الله الناس عليها إلى حقيقة هذه الكلمات بنفسه . لكنه ، وقد كان يجهل اللغة الإنسانية ، أطلق على هذه الكلمات الثلاث مصطلح (أشياء) . وقد حدد هذه (الأشياء) بأنها كل ما من شأنه أن يكون مُدرَكاً ، من قبل المرء وحده بمعزل عن أي مؤثرات خارجية ، ودون حاجة إلى شرح أو إيضاح من قبل أناس آخرين. من ذلك ، على سبيل المثال “هذه اليد الدافئة، برد الشتاء، وقمر الليل. وهناك بعدئذ الشيئان الكبيران اللذان يجعلان المرء يرتعد: الموت والله”.[103]
كان (الموت) الصدمة الأولى التي خبرها حي بن يقظان ؛ إذ أطلق فيه شرارة تأمله العقلي والوجودي . ففي مواجهة موت الظبية ، الأم الواحدة الوحيدة التي عرفها ، ما فتئ يتساءل عن الحياة وعن كينونة الإنسان ، وعن الأساس الجوهري الأصلي . وبدءا من هذه النقطة سوف يطلق ابن طفيل العنان لمعارفه كلها الخاصة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة ، عبر هذا الصعود أو المعراج أو العودة إلى (الواحد الأحد).
وفي مسرحية أليخاندرو كاسونا ، نما بابلو ، كذلك ، دون رعاية أم . ومع ذلك ، فقد ترعرع بصحبة ظبية تجلت فيها كل ملامح الأم، بكل ما تقله من حب وحنان. وقد كان موتها ، كذلك ، صدمة مروعة هزت كيان بابلو من الأعماق:
مرجريتا : تنظر إليه مدهوشة) أتعرف أن تقول ما الموت؟
بابلو : رأيته مراراً وتكراراً عن قرب. المرة الأولى حين كنت في الثامنة من عمري. أتتذكرين أني حدّثتك عن روسينا؟
مرجريتا : الظبية التي كانت تفرّ إلى الغابة في الربيع؟
بابلو : ذات مساء كنت وحيداً، ورأيتها قادمة تجرّ نفسها جرّاً، وفي خصرها بقعة حمراء، حاولت أن أنظّف تلك البقعة، لكنّها كانت تنظر إليّ بعينين حزينتين وكأنها تقول : “لا تتعب نفسك يا صغيري؛ لا جدوى من سعيك ” واضطجعت قرب النار تنتظر. وأحسست فجأة أن شيئاً بارداً غامضاً يخترق الباب، وأن أمراً رهيباً سيحدث أمامي دون أن أستطيع حياله شيئاً. وهكذا وقفت أرتجف في إحدى الزوايا حتى أدركت بوضوح أن عينيها لا تزالان هناك، لكنّ نظرتها لم تعد موجودة ولما جاء والدي ولفظ كلمة )موت(، لم أجد لها لزوماً، لأني كنت أدركت معناه أتفهمين الآن.
مرجريتا : لا أدري… الموت سكينة تُرى وبرد يُلمس. أما الله…”[104]
هذا المشهد يذكرنا بمشهد موت الظبية في رسالة حي بن يقظان :”…الظبية التي كانت أرضعته وربته فإنها لم تفارقه ولا فارقها إلى أن أسنت وضعفت فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة ويطعمها.
ومازال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى إلى أن أدركها الموت فسكنت حركاتها بالجملة وتعطلت جميع أفعالها. فلما رآها الصبي على تلك الحالة جزع جزعاً شديداً وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه ويصيح بأشد ما يقدر عليه فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغيرا”[105]
جدير بالذكر أن جراثيان لم يشر إلى موضوع الموت ، من قريب أو بعيد، على امتداد الأطوار التي مر بها أندرنيو.
وفيما يتعلق بالكلمة الثانية وهي (الله) فقد ذكرها جراثيان من خلال المراحل الحياتية لأندرنيو ، لكنها ليست على درجة عالية من الوضوح ، كما هو الشأن في رسالة حي بن يقظان ، وفي مسرحية الكلمة الثالثة. الأمر الذي من شأنه أن يؤكد رجحان تأثير ابن طفيل ، بخصوص هذه النقطة ، في مسرحية أليخاندرو كاسونا.
فابن طفيل إذ يعرض معراج بطله إلى الواحد الأحد ، فإنما يقتفي أثر الفلسفة الأفلاطونية الجديدة ، وهي فلسفة تنزع إلى الجانب التصوفي ، على نحو دقيق وثيق ، وغايتها ، سواء عند ابن طفيل أو عند أفلوطين ، الاتحاد الوجداني مع الواحد الأحد. هذا هو الهدف الأساسي لعمل الفيلسوف الأندلسي وقد خصص له الجانب الأكبر من الرسالة. وقد قدم لنا أليخاندرو كاسونا من خلال الأطوار التي مر بها بطل المسرحية هذه اللحظة الثانية التي تتسم بالسمو والعروج ، مرهفا السمع لجوهر ما قدمه ابن طفيل.
تتجلى هذه اللحظة الثانية مصوغة بقلم أليخاندرو كاسونا ، إذ يفاجأ بطل المسرحية بريح عاصف يطبق عليه في ليل بهيم في منطقة جبلية مقفرة :
مرجا : وهل اكتشفت الله وحدك أيضاً؟
بابلو : قد يكون مثل اكتشافك له. هو شيء آخر طبيعي.
مرجريتا: لكن، ربما كنت سمعت بهذه الكلمة على الأقل.
بابلو : سمعت الكلمة. لكن ما قيمة الكلمات إذا كنت لا تعرفين ما تحمله من معان؟ كان ذلك حين عودتي من الصيد، وقد ابتعدت عن والدي ووجدت نفسي ضائعاً في جبل مقفر. أكنت ذات مرة وحيدة في الجبل وقت انفجار العاصفة؟
مرجريتا: أبداً.
بابلو : كان الليل يبدو أنه يحبس أنفاسه بانتظار ما لا أدري.” وساد صمت عميق جداً، وسرت قشعريرة من نقرتي حتى حوافر الحصان. حينئذ أدركت كم أنا صغير، وكم أنا وحيد معزول تماماً. ضغطت بيأس على المهمازين لأهرب من تلك الوحدة، لكن دون جدوى: فالحصان كان لا يزال يرتجف دون أن يتحرّك. وفجأة أحسست أني لست وحيداً. بل إن أحداً ما كان يدنو منّي في العتمة ويناديني من الأرض ويطوّقني مع الريح، وينظر إليّ من علياء النجوم. شيء أكبر منّي كثيراً، لكنه كان يريد أن يحل في داخلي ليملأ وحدتي البشرية، لم أستطع مقاومة الخوف، وصحت بالكلمة الوحيدة القادرة على نزعه منّي: “يا الله!” في تلك اللحظة انفجر الرعد كجواب على صيحتي، وأضيء الليل كله بالبروق. حينئذ أدركت ببساطة أن من كان معي هو الله. (“[106]
وأما عن الكلمة الثالثة ، وهي (الحب) ، فلم نلف لها أثرا في المصادر التي ذكرها كاسونا نفسه . ومن ثم فهي من ابتداعه هو ومن وحي خياله ، على نحو شامل كامل .
ينهي أليخاندرو كاسونا المسرحية ليعلن عن الكلمة الثالثة:
بابلو : إذاً، لا يوجد شيئان كبيران فحسب.، ففضلا عن وجود (الله) و(الموت) ، ثمة شيء ثالث يجعل حنجرة المرء ترتعش.
مرجريتا: نعم، يا بابلو، يوجد سر ثالث، هو شبيه بإحساسك بالله تقريباً، شبيه بإحساسك بالموت قليلاً.
بابلو : قولي هذه الكلمة الثالثة. أريد سماعها منك!
مرجريتا: لا لزوم لذلك، يا عزيزي، حين تكون الكلمة الثالثة صادقة فالأفضل أن تُقال بصمت. هكذا.
قرب نهاية المسرحية تحتدم المواجهات بين بابلو وكل من رولدان وخوليو ومرجريتا ، يكتشف من خلالها بابلو فساد الحياة الاجتماعية وما يشتمل عليه المجتمع الإنساني من ضلالات وأكاذيب ، فيقرر الابتعاد بابنه عن هذه الحياة والذهاب إلى الجبال حيث لا ظل للوجود الإنساني . ولحظة الختام هذه تشبه لحظة البداية إذ كان والد بابلو قد حمله وهو طفل وليد وابتعد به عن كل مظاهر الوجود الإنساني ليعيشا معا وسط الطيور والحيوانات المتوحشة . ومن قبل أدرك كل من حي بن يقظان وأبسال ما تنطوي عليه حياة الناس في المجتمعات البشرية من مفاسد ، فقررا العودة مرة أخرى إلى الجزيرة غير المأهولة بالسكان حيث الوحدة والعزلة . ومن ثم ، فالجامعة التي تجمع رسالة حي بن يقظان ومسرحية الكلمة الثالثة تتمثل ، في حقيقة الأمر ، في تشاؤمهما فيما يخص المجتمع الإنساني ، الأمر الذي تأدى ببطلي العملين أن يقررا العودة إلى حياة العزلة في المناطق التي لا وجود للإنسان فيها.
* * *
المصادر والمراجع:
1- ابن طفيل ، رسالة حي بن يقظان ، تحقيق وتعليق أحمد أمين ، تقديم د. حسن حنفي ، كتاب الدوحة 36 ، مايو 2014.
2 – د. الطاهر أحمد مكي ، أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط، دار الهاني للطباعة والنشر ، القاهرة 2004.
3- د. شفيع السيد ، فصول من الأدب المقارن ، دار غريب للطباعة والنشر ، القاهرة, الطبعة الثالثة 2011.
4- د. محمد غنيمي هلال ، الأدب المقارن ، مكتبة الأنجلو المصرية ، ط. 3 ، 1962
5- Abentofail, El filósofo autodidacta, Traducido por Ángel González Palencia, Editorial MAXTOR, 2005.
6- Abentofail, EL FILÓSOFO AUTODIDACTA: Discurso del Método ; Meditaciones metafísicas ; Reglas para la dirección del espíritu, Traducido por Juan Bautista Bergua, Ediciones Ibéricas y L.C.L., 1965.
7- Alfonso Coster, Baltasar Gracián (1601-1658) en Revue Hispanique, t. XXIX (1913).
8- Andrés Martínez Lorca, Ensayos sobre la filosofía en el al-Andalus, Anthropos Editorial, 1990.
9- Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005.
10- Ángel González Palencia, Historia de la literatura arábigo-española, segunda edición, Editorial Labor, 1945.
11- Atilano Domínguez (editor) Spinoza y España: actas del Congreso Internacional sobre “Relaciones entre Spinoza y España” (Almagro, 5-7 noviembre 1992), Univ de Castilla La Mancha, 1994.
12- Aurora Egido, «El arte de la memoria y El Criticón», en: Gracián y su época, 1986, pp.25-66.
13- Baltasar Gracian, El Criticón, edición e introducción de Carlos Vaíllo, prólogo de José Manuel Blecua, Barcelona, Círculo de Lectores, 2000.
14- Baltasar Gracian, El Criticón, edición, introducción y notas de Evaristo Correa Calderón, Madrid, Espasa-Calpe, (Clásicos Castellanos, 1971.
15- Boletin de la Real Academia de la Historia. TOMO CXCVI. NUMERO II. AÑO 1999.
16- Carlos Carrillo Calderón, Elementos del Bildüngsroman en la novela Como bestia que duerme de Camilo José Cela Conde, Divergencias, Revista de estudios lingüísticos y literarios, Volumen 9, número 1, verano 2011.
17- Carmen Gómez Viu, El Bildüngsroman y la novela de formación femenina hispanoamericana contemporánea, EPOS,XXV (2009), pp. 107-117.
18- E. LLedó, «Lenguaje y mundo literario en El Criticón de Gracián», en: Serta gratulatoria in honorem Juan Régulo, La Laguna, Universidad de La Laguna, 1985, pp.411-424.
19- Emilio García Gómez, Introducción a Ibn Hazm de Córdoba, El collar de la paloma, Alianza Editorial, Madrid, 1995.
20- Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos, Enero- Junio de 1926, núms 1 a 6.
21- Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos, Enero- Junio de 1926, núms 7 a 9.
22- Emilio Tornero, Filosofía árabe y literatura del siglo XX, Anaquel de estudios árabes, 12, 2001, pp. 743-750.
23- Emilio Tornero, Introducción de la traducción española de Ángel González Palencia de “El filósofo autodidacto”, Editorial Trotta- Madrid, 1995.
24- Fernando Lázaro Carreter, «El género literario de El Criticón», en: Gracián y su época, 1986, pp.67-87.
25- Fernando Sánchez Dragó, Gárgoris y Habidis: Minorías y marginaciones, Peralta, 1979.
26- G. A. Russell, The ‘Arabick’ Interest of the Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, Brill Publishers 1994.
27- G. A. Russell, The ‘Arabick’ Interest of the Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, Brill Publishers 1994.
28- G. J. Toomer , Eastern Wisedome and Learning: The Study of Arabic in Seventeenth-Century England, Oxford University Press, 1996.
29- J.Checa, “Alegoría, verdad y verosimilitud en El Criticón”, en: Baltasar Gracián. El discurso de la vida, 1993, pp. 115-126.
30- Joaquín Lomba Fuentes, La raíz semítica de lo europeo, Ediciones AKAL, 1997.
31- Jorge Manuel Ayala, “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail” en: Gracián y su época, 1986.
32- José Bergura, (Introducción de) El filósofo autodidacto: Discurso del Método; Meditaciónes metafísicas; Reglas para la dirección del espíritu, Ediciones Ibérica, Madrid, 1965.
33- José Lezama Lima, La posibilidad infinita: archivo de José Lezama Lima, Verbum Editorial, 2000.
34- José-Vicente Niclós, Tres culturas, tres religiones: convivencia y diálogo entre judíos, cristianos y musulmanes en la Península Ibérica, Editorial San Esteban, 2001.
35- Juan Vernet, Lo que Europa debe al Islam de España, Acantilado, 2006.
36- Klaus Heger, , Baltasar Gracián. Eine Untersuchung zu Sprache und Moralistik als Ausdrucksweisen der literarischen Haltung des «Conceptismo». (1952), trad., Baltasar Gracián estilo lingüístico y doctrina de valores: estudio sobre la actitud literaria del conceptismo, Zaragoza, Institución Fernando el Católico, 1982.
37- León Gauthier, Ibn Thofaïl Sa vie, ses œuvres, Paris, Leroux, 1909.
38- M.J. Bruno Herrera, El Criticón de Baltasar Gracián: aspectos de la técnica descriptiva y narrativa (Dissertation at New York University), New York, 1977.
39- Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918.
40- María de los Angeles Rodríguez Fontela, La novela de autoformación: una aproximación teórica e histórica al “Bildungsroman” desde la narrativa española, Edition Reichenberger, 1996
41- María Jesús Lacarra, El apólogo y el cuento oriental en España, en( Raquel Gutiérrez Sebastián, Borja Rodríguez Gutiérrez (Editores), Orígenes de la novela: estudios, Ed. Universidad de Cantabria, 2007.
42- Miguel Asin Palacios, La escatología musulmana en la Divina Comedia, Historia y crítica de una polémica. Boletín de la Real Academia Española, t. XI, 1924.
43- Miguel Grande Yáñez, Ricardo Pinilla, Gracián: barroco y modernidad, Univ Pontifica Comillas, 2004.
44- Rafael Lapesa, Crisis históricas y crisis de la lengua española: discurso leído el día 14 de abril de 1996 , Real Academia de la Historia, 1996.
45- Rafael Lapesa, Generaciones y semblanzas de claros varones y gentiles damas que ilustraron la Filología hispánica de nuestro siglo, Real Academia de la Historia, 1998.
46- Ramon Menéndez Pidal, España como eslabón entre el cristianismo y el Islam, Revista del Instituto Egipcio de Estudios Islámicos, I, Madrid, 1953.
47- Ricardo Senabre, Gracián y «El Criticón», Salamanca, Universidad, 1979.
48- Ricardo Senabre, «El Criticón como Summa retórica», en: Gracián y su época, 1986, pp.243-253.
49- Samar Attar, The Vital Roots of European Enlightenment: Ibn Tufayl’s Influence on Modern Western Thought, Lexington Books, 1989.
* * *
* أستاذ مساعد بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.
[1]María Jesús Lacarra, El apólogo y el cuento oriental en España, en( Raquel Gutiérrez Sebastián, Borja Rodríguez Gutiérrez (Editores), Orígenes de la novela: estudios, Ed. Universidad de Cantabria, 2007,) p. 123.
انظر كذلك:
Andrés Martínez Lorca, Ensayos sobre la filosofía en el al-Andalus, Anthropos Editorial, 1990, p. 58
José-Vicente Niclós, Tres culturas, tres religiones: convivencia y diálogo entre judíos, cristianos y musulmanes en la Península Ibérica, Editorial San Esteban, 2001, p. 92
[2] Emilio García Gómez, Introducción a Ibn Hazm de Córdoba, El collar de la paloma, Alianza Editorial, Madrid, 1995, p. 55.
[3] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, p. 328.
[4] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, pp. 338-339.
[5] Fernando Sánchez Dragó, Gárgoris y Habidis: Minorías y marginaciones, Peralta, 1979, p. 100.
[6] José Bergura, (Introducción de) El filósofo autodidacto: Discurso del Método; Meditaciónes metafísicas; Reglas para la dirección del espíritu, Ediciones Ibérica, Madrid, 1965, p. 26.
[7] Emilio Tornero, Introducción de la traducción española de Ángel González Palencia de “El filósofo autodidacto”, Editorial Trotta- Madrid, 1995, p. 27.
[8] Ramon Menéndez Pidal, España como eslabón entre el cristianismo y el Islam, Revista del Instituto Egipcio de Estudios Islámicos, I, Madrid, 1953, pp. 2-3.
[9] G. A. Russell, The ‘Arabick’ Interest of the Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, Brill Publishers 1994, p. 228.
[10] Atilano Domínguez (editor) Spinoza y España: actas del Congreso Internacional sobre “Relaciones entre Spinoza y España” (Almagro, 5-7 noviembre 1992), Univ de Castilla La Mancha, 1994, p. 129.
[11] El filósofo autodidacta, Traducido por Ángel González Palencia, Editorial MAXTOR, 2005, p.30
[12] G. A. Russell, The ‘Arabick’ Interest of the Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, Brill Publishers 1994, p. 228.
[13] د. محمد غنيمي هلال ، الأدب المقارن ، مكتبة الأنجلو المصرية ، ط. 3 ، 1962 :ص 241.
[14] G. J. Toomer , Eastern Wisedome and Learning: The Study of Arabic in Seventeenth-Century England, Oxford University Press, 1996, p. 218,
[15] Samar Attar, The Vital Roots of European Enlightenment: Ibn Tufayl’s Influence on Modern Western Thought, Lexington Books, 1989 p.3.
[16] El Criticón, edición, introducción y notas de Evaristo Correa Calderón, Madrid, Espasa-Calpe, (Clásicos Castellanos, 165-167), 1971, 3 vols.; El Criticón, edición e introducción de Carlos Vaíllo, prólogo de José Manuel Blecua, Barcelona, Círculo de Lectores, 2000.
[17] Ricardo Senabre, «El Criticón como Summa retórica», en: Gracián y su época, 1986, pp.243-253.; Ricardo Senabre, Gracián y «El Criticón», Salamanca, Universidad, 1979.; M.J. Bruno Herrera, El Criticón de Baltasar Gracián: aspectos de la técnica descriptiva y narrativa (Dissertation at New York University), New York, 1977.; J.Checa, “Alegoría, verdad y verosimilitud en El Criticón”, en: Baltasar Gracián. El discurso de la vida, 1993, pp. 115-126.; Aurora Egido, «El arte de la memoria y El Criticón», en: Gracián y su época, 1986, pp.25-66.; Fernando Lázaro Carreter, «El género literario de El Criticón», en: Gracián y su época, 1986, pp.67-87.; E. LLedó, «Lenguaje y mundo literario en El Criticón de Gracián», en: Serta gratulatoria in honorem Juan Régulo, La Laguna, Universidad de La Laguna, 1985, pp.411-424.
[18] El Criticón, I, “A quien leyera”
[19]Klaus Heger, , Baltasar Gracián. Eine Untersuchung zu Sprache und Moralistik als Ausdrucksweisen der literarischen Haltung des «Conceptismo». (1952), trad. y reed., Baltasar Gracián. Estilo y doctrina, Zaragoza, Institución Fernando el Católico, 1982, p. 19.
[20] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, p. 326.
[21] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, p. 326.
[22] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, p. 326.
[23] Ibid., p. 333.
[24] Ibid. p. 333.
[25] Ibid. pp. 340-341.
[26] Ibid. p. 341.
[27] Marcelino Menéndez Pelayo, Ensayos de crítica filosófica, Madrid, 1918, p. 341.
[28] León Gauthier, Ibn Thofail. Sa vie, ses oeuvres, Paris, 1909, pp. 52-53.
[29] Alfonso Coster, Baltasar Gracián (1601-1658) en Revue Hispanique, t. XXIX (1913), pp. 540, 542.
[30] Miguel Asin Palacios, La escatología musulmana en la Divina Comedia, Historia y crítica de una polémica. Boletín de la Real Academia Española, t. XI, 1924, p. 29.
[31] انظر : أليكساندرو تشورينسكو ، مبادئ الأدب المقارن ، ترجمة د. محمد محمد عليوة ، دار الثقافة – القاهرة :ص 8.
[32] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos, Enero- Junio de 1926, núms 1 a 6., p. 1.
[33] Léon Gauthier, Ibn Thofaïl Sa vie, ses œuvres, p. 93.
[34] Carra de Vaux, Les penseurs de l´Islam, Paris, Geuthner, 1923, t. Iv, p. 65.
[35] د. الطاهر أحمد مكي ، أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط ، دار الهاني للطباعة والنشر – القاهرة 2005 : ص 350.
[36] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos, Enero- Junio de 1926, núms 1 a 6, p.2.
[37] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p.2.
[38] Ibid.
[39] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, pp. 2-3.
[40] Ibid. p. 3.
[41] Ibid., pp. 3-4.
[42] Ibid., p. 6.
[43] Ibid., pp. 7-10.
[44] Ibid., pp. 11-24.
[45] Ibid., pp. 24-45.
[46] Ibid., pp. 45-57.
[47] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, pp. 8-9.
[48] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, pp. 27-28.
[49] ابن طفيل ، رسالة حي بن يقظان ، تحقيق وتعليق أحمد أمين ، تقديم د. حسن حنفي ، وزارة الثقافة والفنون والتراث – دولة قطر ، مايو 2014 : ص 27-29.
[50] مخطوطة (قصة الصنم والملك وابنته) بين يديَّ ، وأنا عاكف ، في الوقت الراهن ، على قراءتها وتحقيقها وسأنشرها – إن شاء الله – لأول مرة بالعربية قريبا .
[51] يوجد كشط في هذا الجزء من المخطوط لم أتبينه.
[52] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 28.
[53] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 28.
[54] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 29.
[55] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 29.
[56] ابن طفيل ، رسالة حي بن يقظان: ص 89-90.
[57] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 30.
[58] ابن طفيل ، رسالة حي بن يقظان: ص 90-91.
[59] أشار شفيع السيد إلى أن إميليو غرثية غومث “يغلب على ظنه تأثر ابن طفيل في قصته تلك ، بقصة …ذي القرنين وحكاية الصنم والملك وابنته” ويضيف والتشابه بين القصتين واضح لا شك فيه ، لكن يبقى الحكم بالتأثير في دائرة الاحتمال ، ولا يرقى إلى درجة الحقيقة المتيقنة”. الدكتور شفيع السيد ، فصول من الأدب المقارن ، دار غريب – القاهرة ، الطبعة الثالثة 2011 : ص 81.
[60] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 3.
[61] أليكساندرو تشورينسكو ، مبادئ الأدب المقارن ، ترجمة د. محمد محمد عليوة ، دار الثقافة العربية – القاهرة :ص 44.
[62]Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p. 10.
[63] Un cuento árabe., p. 2.
[64]Un cuento árabe., p. 2.
[65] Ibid.
[66] Ibid., p. 57.
44 Léon Gauthier, Ibn Thofail sa vie, ses oeuvres, p. 52-53.
[68] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, p.59.
[69] Ibid., p. 60.
[70] Ibid.
[71] Rafael Lapesa, Crisis históricas y crisis de la lengua española: discurso leído el día 14 de abril de 1996 , Real Academia de la Historia, 1996, p. 10.; Miguel Grande Yáñez, Ricardo Pinilla, Gracián: barroco y modernidad, Univ Pontifica Comillas, 2004, pp. 148-149.; Abentofail, EL FILÓSOFO AUTODIDACTA: Discurso del Método ; Meditaciones metafísicas ; Reglas para la dirección del espíritu, Traducido por Juan Bautista Bergua, Ediciones Ibéricas y L.C.L., 1965, p. 12.; Boletin de la Real Academia de la Historia. TOMO CXCVI. NUMERO II. AÑO 1999, p. 233.; Joaquín Lomba Fuentes, La raíz semítica de lo europeo, Ediciones AKAL, 1997, p. 32.; Veronica Galfione, Politica y Soledad/ Politics and loneliness, Editorial Brujas, 2008, p. 417.; Juan Vernet, Lo que Europa debe al Islam de España, Acantilado, 2006, p. 472; Rafael Lapesa, Generaciones y semblanzas de claros varones y gentiles damas que ilustraron la Filología hispánica de nuestro siglo, Real Academia de la Historia, 1998. p. 224.
[72] José Lezama Lima, La posibilidad infinita: archivo de José Lezama Lima, Verbum Editorial, 2000, p. 69.
[73] ثمة خطأ (ص 29) من المؤكد أنه زلة قلم أو غير مقصود في المقدمة التي كتبها جونثالث بالنثيا لترجمته الإسبانية لرسالة حي بن يقظان، إذ جاء نصا ما يلي :
Pero como la primera edición del texto original y su traducción latina por Pococke (1671) es veinte años anterior a la primera parte de El Criticón (1651)…
وترجمته الحرفية : “لكن نظرا لأن الطبعة الأولى من النص الأصلي مصحوبة بالترجمة اللاتينية التي قام بها بوكوك عام 1671 ، قبل صدور الجزء الأول من النقادة (1651) بعشرين عاما…” والغريب أن الكتاب تتوالي طبعاته ، بدون توقف ، من لدن صدوره لأول مرة عام 1934 ، حتى آخر طبعة اطلعت عليها وهي طبعة 2005 ، ولم يلتفت الناشرون لهذا الخطأ.
[74] El filósofo autodidacta, Traducido por Ángel González Palencia, Editorial MAXTOR, 2005, pp.29-30.
[75] Emilio García Gómez, Un cuento árabe, fuente común de Abentofáil y de Gracián, Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos, Enero- Junio de 1926, núms 1 a 6, p. 11.
[76] Léon Gauthier Ibn Thofail: sa vie, ses oeuvres, Leroux, 1909, pp.62-63.
[77] Ángel González Palencia, Historia de la literatura arábigo-española, segunda edición, Editorial Labor, 1945, pp.235-236.; Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005, pp. 18-20.
[78] Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005, p. 25.
[79] Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005, p. 26.
[80] Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005, pp. 26-27.
[81] Ángel González Palencia, El filósofo autodidacta, Editorial MAXTOR, 2005, pp. 29-30.
[82] Jorge Manuel Ayala, “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail” en: Gracián y su época, 1986, pp. 255-256.
[83] Klaus HEGER, , Baltasar Gracián. Eine Untersuchung zu Sprache und Moralistik als Ausdrucksweisen der literarischen Haltung des «Conceptismo». (1952), trad., Baltasar Gracián estilo lingüístico y doctrina de valores: estudio sobre la actitud literaria del conceptismo, Zaragoza, Institución Fernando el Católico, 1982, p. 30.
[84] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 260.
[85] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 259.
[86]“El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 259.
[87] انظر : أليكساندرو تشورينسكو ، مبادئ الأدب المقارن ، ترجمة الدكتور محمد محمد عليوة، دار الثقافة العربية – القاهرة : ص 53-54.
[88] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 259
[89] Emilio García Gómez, p. 4.
[90] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 260.
[91] الجاحظ ، الحيوان ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، دار الجيل – بيروت 1996 : 3/ 131.؛ الخطيب القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، دار إحياء العلوم – بيروت 1998: ص 14.
[92]“El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, pp. 260-261.
[93]“El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, pp. 261-262.
[94] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 264.
[95]“El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 264.
[96] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, pp. 264-265.
[97]“El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, p. 265.
[98] “El Criticón de Gracián y El Filósofo autodidacto de Abentofail”, pp. 265-266.
[99]Alejandro Casona, La tercera palabra, Cronología e introducción de Guillermo Suazo Pascual, Madrid, Editorial Edaf, 1993, p. 108:
[100] La tercera palabra, p. 103.
[101] La tercera palabra, p. 114.
[102] Alejandro Casona, Obras completas, Madrid, Aguilar, 1974, Prólogo de F.C.Sainz de Robles, p. CLVII.
[103] Alejandro Casona, La tercera palabra, Cronología e introducción de Guillermo Suazo Pascual, Madrid, Editorial Edaf., 1993, p. 108.
[104]Alejandro Casona, La tercera palabra, p. 109.
[105] رسالة حي بن يقظان : ص 35.
[106] Ibid.,p. 110.