صفات الألوهية في العهد القديم بين الاضطراب والتنزيه
أ / وليد مسعود منصور ـ باحث بمكتبة الاسكندرية
مقدمة :
العهد القديم (الكتاب العبري תנ”ך, ספר תורה נביאים וכתובים) هو أحد الكتب الدينية ذات الأثر البعيد، متصلة النسبة بالوحى السماوي، وسيبقى علامة بارزة في أحداث البشرية تاريخيا، مميزا لمنطقة الشرق الأدنى القديم؛ إذ هو محل الوجود والنشأة ومنه إلى بقية الأصقاع.
فمنطقة الشرق الأدنى القديم هي تلك المنطقة التي نشأت فيها الحضارات القديمة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط الحديث: بلاد الرافدين (العراق وسوريا) وبلاد فارس (إيران) والأناضول (تركيا) وبلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) ومصر القديمة، من بداية ظهور سومر في الألفية الرابعة ق. م.والتي تعاقبت فيها منذ فجر التاريخ حضارات متعددة وكيانات اجتماعية متوالية ، بلغ كلٌ منها شأوًا من التقدم ، ونال حظه من عامل الزمن، ثم لم تلبث أن تهاوت وأعقبها بفعل سنن التطور والتدافع البشرى حضاراتٌ أخرى، وهكذا دواليك…
والعبريون كغيرهم جماعةٌ لها بداية في حركة التاريخ، لم تكن هي مستهله ، ولكن تطورت بفعل عاملي النشوء والارتقاء من مراحلها الهمجية البدائية إلى مراحل أكثر تطوراً في صور مختلفة.
بدا هذا واضحًا في الميل إلى الارتباط بالأرض والاستقرار بعد الرعي والبداوة. كما بدا في إنشاء جيوش وممالك ونظم سياسية لا عهد لهم بها من قبل وغيره من مظاهر التطور التي عرفوها تأثراً وتقليداً وليس إنشاءً أو ابتكاراً، وكما كان التقليد والتأثر باديين في المظاهر السياسية والاجتماعية فقد كان أجلى في تصاريف الديانة ودقائق الطقوس والعقيدة والعبادة، وهذا الموضوع محل البحث والنظر.
وصفات الألوهية هي أهم أركان العقائد، على اختلافها، وباستقراء تاريخ العقائد يُخلَص إلى أنه حينما تسلم صفات الألوهية من شوائب الانتقاص؛ كالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتكييف وغيرها، ويعمّ التنزيهُ أفهامَ المؤمنين بالديانة – أي ديانة – فإن مسار هذه الديانة يستقر إلى حد بعيد على مدار تاريخها، والعكس بالعكس؛ فكلما طغت آثار التشبيه والتجسيم والتعطيل نَحَت الديانة منحى الاختلاف والفرقة والنزاعات والدماء بين فرقها المختلفة، وذلك لاختلاف أفهامهم.
والعقل اليهودي كغيره ابن بيئته؛ نزاع إلى مادة محيطه القريب في الزمن القديم، يستلهم منه بفعل الأساطير والقوى الخارقة والظروف السياسية والاجتماعية وعوامل اللغة المكونة لنصوصه المقدسة؛ فيرى من خلال كل هذا انعكاس تجليات الإله.
وما نجده في العهد القديم من تجليات وأثار لهذا العقل ذاته في قصة عراك الرب مع يعقوب ومغالبة يعقوب له، ومخافة الرب من إحصاء الإنسان لعلوم الغيبيات فبلبل ألسن الناس كي يتفرقوا ، فلا تتحد معارفهم بعد اتحاد كلمتهم، وغيره كثير من أمثلة التلاقي والتلاقح العقلي متفاوت الدرجات بين بعض مواد المقرا وثقافة الشرق الأدنى القديم، وهو ما عاد بأثره على صفات الألوهية وفكرة تنزيه الإله.
وكما يقول جيمس فريزر: إن الابحاث الحديثة التي تدرس فجر التاريخ البشرى بشتى اتجاهاتها قد توصلت إلى نتيجة مؤداها أن كل الأجناس المتحضرة قد تطورت في زمن أو آخر من المرحلة الهمجية التي تشبه في قليل أو كثير المرحلة التي لا تزال بعض الشعوب المتأخرة تعيشها اليوم.
كما انتهت هذه الأبحاث إلى أن هناك آثارا ليست بالقليلة من الطرز البدائية القديمة في الحياة والتفكير لاتزال ماثلة في عادات الناس وتقاليدهم، ويمكن تلمسها بالبحث والتنقيب في عادات الناس وعباداتهم على اختلافها.
واليهودية كبقية الديانات والثقافات يُرى في مادتها ما ليس منها بداءةً، ولكن آثارُ الدهر وبقية التفاعل الإنساني طورًا فَطَورًا، على أن لتاريخ اليهودية وأهلها خصوصية مرعية في التاريخ من حيث السياق والدلالة والنواتج.
فاليهودية أمة لم تفلح في بناء حضارة بالمعنى الكامل لمسمى الحضارة ولا هم برزوا على مسرح التاريخ جماعةً غالبةً باسطةً نفوذها على رقعة شاسعة من الأرض لتترك بصمة معلومة في غيرها من الأمم؛ اللهم إلا ما كان بنذر يسير نسبيا في زمن الملكية على عهد داوود وسليمان؛ ولكن أذلتهم هزائمهم المتتالية أمام الشعوب المجاورة، وفرقهم المنفى والشتات وأُرغموا في غالب تاريخهم على التبعية لأمة قوية ينضوون تحت لوائها ويتأثرون بها دينًا وفكرًا ولغة فتارة يميلون إلى مصر الفرعونية وأخرى يعولون على بابل وأشور، وثالثة بلاد فارس.
ولا ريب أن ما ألمحت إليه من اضطراب في ظروف نشأة النص المقرائي وتدوينه، سياسيا واجتماعيا وتاريخيا على مدار ما يربو على ألف عام هي فترة تدوين النص المقرائي وجمعه ، قد تركت أثرا في مادته العقدية، ومن هنا جاءت فكرة البحث للنظر في هذه المواضع.
وقد جاء البحث موزعا على مقدمة ومبحثين وخاتمة، عرجت فيها على بيان صريح لبعض مواضع التنزيه في نص المقرا، مرورا بما يناقض هذه المواضع في المبحث الثاني، متوقفا عند تأويل بعضها، ولم أحمل على التعرض لتفصيل أسباب وقوع الاضطراب، كي لا يتسع البحث على أصل موضوعه، ولعلي ألحقه بدراسة تالية تستجلي هذا الجانب إن شاء الله.