المثاقفة في شعر الأعمى التطيلي الأندلسي ، دراسة نصية
الأستاذ الدكتور محمد عويد محمد الساير
كلية التربية الأساسية في جامعة الانبار / العراق
في المثاقفة… تعريف وتأصيل.
لا شكّ في أنّ المثاقفة مصطلح قد يعود في جذوره التأسيسية إلى عهد قريب من عهد الحضارات الغربية والامريكية. إذ ربّما يرجع في أصوله الاصطلاحية والدلالية إلى ما كتبه الانثربولوجيون الأمريكان في حدود سنة 1880م. في حين كانت الدول الأوربية تستخدمه بأسماء أخرى، إذ هو عند الكتّاب الأنكليز التداخل الثقافي، وعند الكتّاب الاسبان التحول الثقافي، وأما عن الكتّاب الفرنسيين ففضلوا مفهوم تداخل الحضارات(1).إلاّ أنّ مصطلح المثاقفة اصبح أكثر شهرة وتداولاً وانتشاراً حتى وصل إلى عالمنا العربي ونقّاده ومفكريه فتناولوه في طروحاتهم المختلفة، في العلوم المختلفة، في الفنون المختلفة… ومنها الأدب والنقد.
على أن رجوعنا إلى المعجم العربي واستنطاقه يوضح لنا أساس مفهوم المثاقفة من حيث اللغة، ويمكننا أن نلحظ فيه التطور الدلالي وصولاً إلى المثاقفة بمفهومها اليوم، وبموضوعها وإجراءاتها. فالمثقف في هذا المعجم هو الشخص الذي صار حاذقاً فطناً. وثقف الشيء أي: ظفر به أو وجده وتمكّن منه. وثقف الحديث : حذقه وفطنه وفهمه، وثقّف الشيء : أقام المعوّج منه وسواه(2).
ومثلما نلحظ هذه المعاني وسواها تشير إلى الفطنة والحذقة والتمكن من الصناعة، أيّاً كانت ومهما كانت. بل، وإقامة المعوّج منها وتصليحها…من هنا كانت المثاقفة وكان أصلها الأول الذي ﭐستخدمت له. فهي تعني اتقان الصنعة والحذق فيها من خلال الاشتراك مع الاشخاص الآخرين الثقافات الأخرى في سبيل الظفر بالشيء الجديد ، ثقافة جديدة في الادب، النص الجديد، القائم على اشتراك ثقافات مشتركة ومختلفة بفعل ( فعل ثقافي وحضاري مشترك داخلي وخارجي لا يمكن فصل بعضهما عن البعض الآخر)(3). والمثاقفة وبناءً على هذا المفهوم ( تعدُّ رافداً مهماً تسعى كل أمة من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات انسانية وحضارية وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية وثوابتها )(4).
ولذا برزت المثاقفة اولاً في علم الاجتماع، وفي أصوله المفاهيمية، ومن ثمّ أصبح مفهوماً ينتمي إلى أكثر العلوم المعرفية، ومن هذه العلوم… الأدب والنقد(5). وفي هذا الاخير، ومنه الادب العربي، تعني المثاقفة الاشتراك والانفتاح مع نصوص أخرى من ثقافات أخرى، أي أن النصوص الشعرية الأخرى هي التي تتفاعل وتتشارك في انتاج النص الجديد.
وهذه النصوص لا تقلل من فاعلية النص الجديد، أو النص الحاضر، ما دام يُحدثُ فينا وفي المتلقي، التأثير والامتاع والاطراب… بل والتواصل مع الحضارات الأخرى، أو مع شخص آخر له تجاربه ومشاعره الخاصة، وهو ينشئ النص أو يبدعه. ومن هنا تختلف المثاقفة عن التناص فهي ( تعني تداخل الثقافات بصورتها الكلية، وأما التناص فهو تداخل النصوص الأدبية وتعالقها)(6).
فالنص الجديد هو تحاور وتشارك مع النصوص الأخرى، لأغراض مختلفة، بطرائق مختلفة، وبما إن ( كلَّ نص إنما هو تسرب وتحويل لجملة من النصوص السابقة)(7). فيمكننا أن نلتمس أثر المثاقفة في النص الجديد، وكيف أنتجه المبدع، مع احتفاظه بحق الجدة والابتكار، فهو المعبر عن تجربته ومعطياتها، وهو المنشئ للنص الجديد الذي فيه زمان ومكان آخر، وثقافة أخرى لا تختلف عن الثقافات السابقة. التي اشتركت في توليد الشخصية. ونتاجها الإبداعي.
والثقافة الأندلسية نظرت إلى حد بعيد في الثقافة المشرقية. فشاعت أسماء المدن المشرقية في المدن الأندلسية وحضاراتها. وكذلك في ألقاب الخلفاء والأمراء في المشرق واحتضانها في الأندلس في خلفائها وأمرائها، ومن ثمَّ في أسماء الشعراء وألقابهم في المشرق ووصولها إلى الأندلس، بإطلاق الأسماء والألقاب نفسها على الشعراء الأندلسيين بعدما عُرفت في المشرق، لشعراء كبار في الأدب والشعر والنقد، تركوا بصمتهم الشعرية والنقدية والتأليفية في كليهما… الشعر والنقد.
هذا فضلاً عن مصادر الثقافة الواحدة، القران الكريم وآياته وقصصه، والأساطير والميثولوجيا واشتراكها عند العرب في المشرق والأندلس، ووصولها إلى شعرائها في مدنهم الاندلسية المختلفة عبر الكتب، وعبر الرحلات، وعبر العلماء ، وفي الشعر العربي، والموروث الأدبي الشعبي، وغيرها، كل مصادر الثقافة إذن هي مشتركة وواحدة بين المشرق والمغرب، ولذا فالمثاقفة ستظهر جلياً لو عرفناها عند شاعر أندلسي من خلال هذه المصادر، وغيرها.
على أننا يجب أن لا ننسى أصالة الشاعر الأندلسي ، وأصالة شعره ونصه، إذ إن كلّ نص إنما يُنظم في زمان ومكان معينين، وله تجربة خاصة، وإلاّ لما كان مبدعاً، أو منتجاً أصلاً، يثير فينا كوامن الابداع، ويجعلنا نبحث عن كنه تجربته، ومظاهر ثقافته المصاهِرة للثقافات الاخرى.
وعلينا ألاّ ننسى أيضاً أن مهمة البحث عند المثاقفة عند أي شاعر مهمة ليست سهلة أو يسيرة، بل هي تنماز بالشاقة والصعبة، بل والعسيرة في بعض الأحايين، لأنها تُعنى بأساليب الإبداع والنجاح في النص الجديد، ومدى استيعابه وشموله لهذه الاساليب في النص القديم من خلال الثقافة عن المنتج الثاني المبدع الأخير الذي أخذ، وظفر، واستنبط، وحذق من صاحب النص الاول وثقافته وأضاف هذه الثقافة إلى نصّه وتجربته، فكان من التأثير والامتاع بمكان كبير.
وفي بحثي هذا، تقوم المثاقفة في آلياتها وأجراءاتها على نصوص الشاعر الاندلسي الكبير الأعمى التطيلي (ت 525هـ)(8)، فهو ” معرّي الاندلس ” (9)، وهو من أكبر شعراء عصري الطوائف والمرابطين، ولاسيما في قصيدة وفن وغرض المديح، فهو الشاعر الأول والمبّرز في هذا الغرض، وعلى رأس قائمة المدّاحين في الشعر الأندلسي، ولاسيما في عصر المرابطين(10). وغير خافٍ على الجميع ما لهذه القصيدة من ذيوع وشهرة لكونها ترتبط بالرجل الأول في الدولة، والمنصب الاهم في الرعية، ولما تتطلبه من مهارة وإتقان صنعه في لوحاتها، وفي طولها- نسبياً- ، وفي مقدمتها، وفي خاتمتها… ومن هنا كانت انواع المثاقفة جالبة للنظر، مفهمة بسعة ثقافة الناظم وكثرة اطلاعه على حضارة المشرق في كل شيء، فكان هذا البحث الذي سيتناول هذه الأنواع للمثاقفة بدراسة نصية كاشفة عن ثقافة شاعرنا التطيلي، الشاعر الأعمى الذي كثيراً ما تميّز على المبصرين المبدعين… شعراً وفناً وصنعة.