التَّشوّق إلى الدِّيارِ المُقَدَّسةِ في الشِّعرِ الأندلسيّ والمغربيّ، من خلالِ رحلة ابن رُشَيد السَّبتي “دراسة موضوعية وفنية”



التَّشوّق إلى الدِّيارِ المُقَدَّسةِ في الشِّعرِ الأندلسيّ والمغربيّ،

من خلالِ رحلة ابن رُشَيد السَّبتي “دراسة موضوعية وفنية”

د/ إبراهيم حسين أبو سريع إسماعيل

أستاذ الأدب الأندلسي المساعد
د/ سعد بن ماشي العنزي الأدب المساعد

أستاذ الأدب الأندلسي المساعد

جامعة الجوف ـ المملكة العربية السعودية

الملخص

تعدُّ نصوص التشوق إلى الديار المقدَّسة من النصوص التي ظهرت معبرة عن الشوق والحنين عند شعراء المغرب والأندلس الذين لم يستطيعوا أداء فريضة الحج وزيارة تلك المعاهد الطاهرة، كما عبَّرت هذه النصوص عن العشق والوجد عند متصوفة الغرب الإسلامي الذين جعلوا للأماكن المقدَّسة مكانًا مهمّا في حياتهم الصوفية.

وقد امتازت هذه النصوص الشعرية  الشَّريفة ــ بشرف موضوعاتها وأغراضها ــ بالصدق والشفافية، وذكر الكثير من المشاعر الكريمة ووصفها وصفًا دقيقًا يشتمل على صور شتى للحلِّ والتِّرحال وإبداء الشوق والهيام، وذكر الحب والغرام على طريقة أهل التصوف في حبِّهم وتشوقهم للذات الإلهية.

وإذا كان التشوق للمعاهد الحجازية نابعًا من قدسيتها، وهذه القداسة تعود فيما تعود إلى شهودها ولادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعثه ودفنه فيها، فإن ذكر الأماكن المقدسة يفترق عن المديح النبوي؛ لأن قصائده لم تنشأ في الأصل لمدح النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

ويلتقي فن التشوق للأماكن المقدسة مع المديح النبوي أحيانًا، عند ذكره للرسول الكريم، وحين يُقَدَّم لقصائد المديح النبوي به، فهذا الفن له علاقة بالمديح النبوي، ولكنه لا يعدَّ مدحًا نبويًا خالصًا، ذلك الفن الذي تقاطع مع فنون أخرى وافترق عنها.

وقد جاء هذا البحث مشتملا على مبحثين، يسبقهما مقدمة وتليهما خاتمة أودعناها أبرز النتائج التي اهتدينا إليها، ثم ذيَّلناه بثبت يشتمل على أهم المصادر والمراجع التي اعتمدنا عليها.

Abstract

Longer texts Look forward to the holy texts that emerged reflects the longing and nostalgia when poets of Morocco and Al-Andalus who could not perform the Hajj and visiting those Immaculate, as these texts about love and presence when the mystical Islamic West who made for the Holy places important place in their lives.

This has characterized the poetic texts The Honorable privilege of themes and objectives with honesty, transparency, and many of the emotions, as an accurate description that includes a variety of solution and travelling and make the longing, passion, and love said the way folks mysticism in their love and their longing for God.

If the passion of Hejaz institutes of sanctity, and this Holiness back in return to witnesses the birth of the Messenger of Allah-peace be upon him-and the Mission of the burial, said Holy forks of prophetic praise because his poems did not arise for the Secretary praise of the Prophet PBUH.

Art meets passion To the Holy places with the prophetic praise at times said to the Prophet, while for prophetic praise poems, this art has nothing to do with praise, but it is not purely a prophetic, Madha arts that intersect with other art and parted.

This search contain two sections, preceded introduction, followed by highlights of the results filed conclusion found, then faith whereof we have appended the proven contains the most important sources and references that we adopted them.

El anhelo a los lugares sagrados en la poesía andalusí y marroquí.

El viaje de Ibn Rushd Al-Sabti como modelo.

El fenómeno del anhelo a los lugares sagrados se considera un aspecto muy destacado en la poesía tanto de los marroquís como de los andalusís y se manifiesta más cuando resulta les resulta difícil visitar los lugares sagrados.

Este fenómeno destaca en los poemas de los místicos andalusís que se caracterizan por temas y objetivos nobles, sinceridad y anhelo constante.

Son poemas que se entrelazan con la alabanza del profeta en muchos aspectos, aunque no se han creado para este fin.

المقـــدمة

الحمد لله الذى إذا أراد أمرًا انفرج بابه، واتفقت أسبابه، حمدًا يليق بجماله وجلاله، والصلاة والسلام على رسوله الأكمل، من أوتى جوامع الكلم، وبهر ببلاغته العرب والعجم سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الميامين، وأصحابه الغرّ المحجَّلين ، وبعد ……

فإن الذين كتبوا عن هذا القطر سواء من الناحية التاريخية – وذلك هو الغالب – أو من نواح أخرى لم تَفُتْهُم الإشارة إلى أن الأندلس والمغرب عرفا ازدهارًا ملحوظًا، والدليل على ذلك هو بروز عدد كبير من الشخصيات العلمية والأدبية، ووجود إنتاج أدبي، وتراث فكري ضخم، والمتتبع للمصادر التي تعرضت لتاريخ الغرب الإسلامي – على وجه العموم – كثيرًا ما يجد عبارات مثل «نبوغ مغربي»، «وازدهار ثقافي»، «ونشاط علمي»، «وحركة فكرية»، وغير ذلك من الأوصاف التي قد يُقصد بها التدليل على وجود النهضة الأدبية الكبرى في الأندلس والمغرب.

وفوق ذلك كله فإن الوسط الأدبي في المغرب والأندلس قد اشترك في تكوينه جميع الطبقات من الملوك، وغيرهم من أبناء الوطن، أما الملوك فقد كان أكثرهم من المبرَّزين في ميدان الأدب، وكانت لهم مشاركة فعالة فيه، ورغبة أكيدة في التقرب إلى العلماء والأدباء؛ ليستفيدوا منهم، وليتبادلوا معهم الأفكار والآراء حول الشئون الأدبية بصفة خاصة، فكانت قصورهم مدرسة تعجُّ بالشعراء، وكان رجال العلم يقصدونها من كل حدب وصوب تأكدًا منهم بأنهم سيجدون فيه مرتعًا وميدانًا خصبًا، وبذلك كثر التجاوب، وقوى التفاعل، واشتدَّ الانسجام بين الجانبين، وكان الربح العظيم للحركة الفكرية بصفة عامة والأدبية بصفة خاصة، والدليل على ذلك أنه قلما نبغت شخصية في الأدب أو في الفكر إلا ووجد اسمها ضمن مشاهير الأدباء والعلماء الذين كانوا يعيشون في هذا المِصر.

وأما العوام فقد استفحل على أيديهم ذلك الشعر العامي الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته، وقال: «إنه من نظم العوام»، وما ذلك إلا دليل على رقى الوسط الأدبي الذي لحق حتى بعوام الناس.

إن مِصرًا أخرج لنا أمثال: ابن خلدون، والعبدري، والونشريسي، وابن بطوطة، وابن آجروم، وابن عبد الملك المراكشي، والمكودي، وابن المرحل، وابن رشيد السبتي – صاحب الرحلة التي معنا – وابن الشاط، وابن الحاج النميري، وابن البناء العددي، وغيرهم من النجوم الزاهرة والكواكب اللامعة ليس مصرًا عاديَّا، ومن يطلع على المؤلفات والأوضاع في هذه البلاد يذكر قوله تعالى: (قد علم كل أناس مشربهم)، ومن يرد الدليل والبرهان فما عليه إلا أن يدخل هذا الروض الأنف – نقصد: فن الرحلات – ليرى السحر الحلال الذي يأخذ بالعقول ويذهب بالأذهان، فمن بديع الشعر والنثر والسلسلات الذهبية من التراجم والأنساب والتاريخ، إلى مسائل الدين والعقيدة والفقه والأصول ودرر البلاغة والنقد والنحو واللغة ورائق التصوف والزهد، هذا بالإضافة إلى أوصاف البلدان والحضارة والعمران وعجائب الطبيعة والمخلوقات في البر والبحر، وكذا الأحوال الاجتماعية، والروحية، والسياسية، والاقتصادية.

ولما أطلق ابن الخطيب حكمًا على الشاعر الأندلسى مالك بن المرحل فوصفه بـ «شاعر الغرب وأديب صقعه، وحامل الراية المعلَّم بالشهرة»، وكما وصف ابن خلدون الأديب المغربى أبا عبد الله بن رشيد السبتي بكبير «مشيخة المغرب» – لم يكن ذلك تأسيسًا على التفخيم والتهويل، وإنما حملهما على ذلك الصدق والحقيقة، والقول بما هما على علم به، ولا غرو في ذلك فابن خلدون وابن الخطيب جهينة الأخبارومن الذين يعلمون زائف الرجال من الأخيار.

ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن المرحل وابن رشيد السبتي وعبد العزيز الملزوزي من الذين أحرزوا قصب السبق في ميدان الشعر في المغرب والأندلس، ولم يكن هؤلاء فقط هم الذين بَّرزوا من بين الشعراء، وإنما كان هناك ثُلَّةٌ من الأولين والآخرين الذين ازدانت بهم المصادر المغربية والأندلسية، وازدهرت ببديع شعرهم ونتائج فكرهم وبدائع عقولهم، فكان أدبهم – شعرًا ونثرًا – جواهر ثمينة ودررًا مرصعة في تاج التراث الإسلامي .

– أسباب اختيار الموضوع:

1 – كان مما أغرانا بهذا الموضوع، وشجَّعنا عليه، ورغَّبنا فيه، وقوفنا على قدر مهم من شعر الشعراء الذين عاشوا في عصر – صاحب الرحلة التي معنا – ابن رشيد السَّبتي، يفوق فى مجموعه كل ما وصل إلينا من شعر الفترات السابقة عليه بالمغرب والأندلس.

2 – زاد من إيماننا بصَوابِ اختيارنا رأْيٌ تَكَّون لدينا عن هذه البلاد – الأندلس والمغرب – وتعزَّز من خلال ما اطَّلعنا عليه من مصادرها وأخبارها، وذلك أننا كنا – وما زلنا – نعتقد أن هذه البلدان ليست كغيرها، ولكنها البلاد التي شهدت تحولًا عميقًا في المكونات الأدبية، ودواعي الإبداع، ومظاهر التقليد والتجديد؛ لأنّ الشعراء والكُتَّاب في ذلك القطرقد انتقلوا من مرحلة التقليد والمحاكاة لأدباء المشرق وشعرائه إلى مرحلة الإبداع والابتكار، فأردنا أن نبرز هذا المظهر في شعر التشوق إلى الديار المقدسة لديهم.

3 – ظهرت في الأعوام السابقة دراسات أفردها أصحابها للشعر المغربي والأندلسى، ولم ينل الشعرفي عصر – ابن رشيد السبتي – من عناية الباحثين إلا قدرًا قليلًا، وهذا مما يؤسف له حقًّا؛ لأن عدم الاهتمام به يؤدي إلى بَتْرِ الوَشَائجِ بين الأجيال الحاضرة وتراثها الأدبي والفكري والثقافي العظيم.

4 – لما كانت جهود الباحثين في هذا الميدان – ميدان الشعر – قد انصبت على جل العصور المغربية والأندلسية بدءًا بالفتح وانتهاءً بالموحدين متجاهلة عصر الرحالة ابن رشيد السبتي، وترتب على ذلك فراغ المكتبة الأدبية المغربية والأندلسية من دراسة علمية تتناول شعر التشوق إلى الديارالمقدسة، وتَرْصُد ملامحه، وما تمخَّض عنه مِن إبداعات ظلت حتى هذا الزمن المتأخر تحمل روح الشعر الرفيع وأصالة الشعراء المتمكنين – أردنا بهذه البحث أن نسد فراغًا في المكتبة الأدبية الأندلسية.

5 – سعيًا منا إلى الإسهام – ولو بقِسْط ضَئِيل – في إحياء تراثنا العربي في مجال الشعر، ولفت النظر إلى ما خلَّفه أدباؤنا من أشعار خلَّدت ذكرهم، وأعلت شأنهم، وجعلتهم يتبوَّؤن مكانة لا تَقِلّ عن مكانة شعراء المشرق .

6 – افتقار التراث العربي المغربي والأندلسى – بصفة عامة – إلى جهود كثيرة ومتواصلة لبعثه والعمل على التعريف به، حيث إنه لم يلق الاهتمام الذي لقيه الأدب في المشرق والذي خصه الباحثون بالأبحاث المتنوعة الكثيرة، والمؤلفات الضخمة النفيسة بكثير من التدقيق والتحقيق والتحليل، ولعل عدم الاهتمام بهذا الأدب، يرجع في نظرنا إلى الصعوبة التي تَكْتَنِفُه، وإلى تلك الازْدِوَاجية في أغلب الشخصيات المغربية والأندلسية.

ــــ المنهج الذى سوف نسير عليه في بحثنا:

أما المنهج الذي سوف نسير عليه في هذا البحث فهو المنهج التكاملي الذي تتداخل فيه المناهج البحثية المختلفة والمناسبة لمقاماتها في الدراسة كالمنهج التحليلي الذي نوظفه في دراسة النصوص وتحليلها وذِكْر مضامينها، وكالمنهج التاريخي الذي نستخدمه في بعض التراجم والتواريخ، وكذلك المنهج الوصفي؛ لأن النصوص تتداخل وتنعكس عليها أشياء كثيرة من أمور الحياة التي يتأثر بها الشاعر وينقلها إلينا. فسنقدم النصوص ــ بإذن الله ــ ثم نحاول النفاذ إلى ما تشتمل عليه من موضوعات وأفكار ومعلومات مع تحليلها ومقارنتها بغيرها إن أمكن.

خطة البحث:

ويالنسبة لخطة البحث، فقد اشتملت على مبحثين، يسبقهما مقدمة وتليهما خاتمة أودعناها أبرز النتائج التي اهتدينا إليها، ثم ذيَّلناها بثبت يشتمل على أهم المصادر والمراجع التي اعتمدنا عليها.

والحمد لله الذي بنعمه وتوفيقه تتمُّ الصالحات، إنه ﴿نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِرُ﴾.

المبحث الأول

التَّعريفُ بابنِ رُشَيد السَّبتِي وَرِحلته

«مَلءُ العَيبةِ بِمَا جُمِعَ بِطُولِ الغَيْبَةِ فى الوِجْهَةِ الوجِيهَة إلى الحَرَمَينِ مَكَّةَ وطَيبَة»

أولا: حياته ومصادر ترجمته:

ترجمة ابن رشيد غنية، لذلك فالإلمام بها غير ممكن فى هذا المقام، فحياة ابن رشيد ومواقفه وآراؤه وتآليفه، وما اتَّسم به من حكمة وتنوع وعمق، يحتاج إلى دراسة مستقلة عساها توفِّيه حقّه من الدراسة والتمحيص، ويكفى هنا أن نعطى نظرة موجزة نتحدث فيها عن أهم مراحل حياة ابن رشيد وعلى الأخص ما له علاقة بالجانب الأدبي شعرًا ونثرا، ثم نعرض بإيجاز أيضًا إلى محتويات الرحلة.

ابن رشيد هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهرى السبتى(1).

وكانت سبتة آنذاك تشهد فترة ازدهار علمى برعاية العَزْفِيين العلماء الرؤساء، فأتيح لابن رشيد الأخذ ببلده عن علماء كثيرين سبتيين أو وافدين على سبتة، ومن هؤلاء العلماء الذين درس عليهم ابن رشيد: إمام النحاة أبو الحسن بن أبى الربيع، وأخذ عن أبى الحسن ابن الخطَّار الكتامى، وأبى إسحاق التلمسانى، ومالك بن المرحل، وأبى القاسم القبتورى، وغيرهم(2) من العلماء الذين أخذ عنهم العلوم المختلفة، كعلم القراءات والتفسير، والنحو، والحديث والأدب…

وقد لخص الصفدى فترة دراسة ابن رشيد وطلبه العلم والحديث قبل الرحلة بقوله: «أخذ العربية عن أبى الربيع ونظرائه، واحتفل فى صغره بالأدبيات وبرع فيها، وروى البخارى عن عبد العزيز الغافقى قراءة من لفظه، وارتحل إلى فاس واشتغل بالمذهب، ورجع إلى سبتة وتصدَّر لإقراء الفقه خاصة..»(3).

وقد رافقه فى هذه الرحلة المهمة ذو الوزارتين ابن الحكيم اللخمى الرندى(4)، فسعد كل منهما بهذه الرفقة إذ «كان قصدهما واحدا، ومسعاهما متعاضدًا، فترافقا فى السفر، كما ترافقا فى الوطر»(5) لذلك أفاد كل منهما صاحبه أو «تديَّح معه» على حد تعبير ابن الخطيب(6)، فكان بينهما الانسجام والتآلف، ولذا حَرَصا معًا على إبقاء هذه الصلة الودية، فانتقل ابن رشيد إلى غرناطة بناءً على دعوة ابن الحكيم واستجابة لرغبته، وقد أنعشت إقامته بغرناطة الجو العلمى إذ «عقد مجالس للخاص والعام يقرئ بها فنونًا من العلم»(7)، فاكتسب بذلك سمعة طيبة نظرًا لسعة معارفه وسرعة بديهته وفصاحة لسانه يدل على ذلك تصرفه بالبديهة والعمومية فى الجامع الأعظم بغرناطة حين «ظن أن الأذان قد انتهى»(8).

ولم يغادر ابن رشيد غرناطة إلا بعد أن قتل رفيقه وولى نعمته ابن الحكيم فى شوال سنة 708هـ(9).

وقد كانت شهرته العلمية كافية لإنزاله المنزلة اللائقة بمستواه العلمى؛ حيث «قدِّم للصلاة والخطبة فى مراكش بجامعها العتيق، إلى أن استدعى إلى فاس فأقام بها بقية حياته معظمًا لدى الخاصة والعامة، إلى أن توفى بها فى الثالث والعشرين من محرم مفتتح عام واحد وعشرين وسبعمائة، فدفن بخارج باب الفتوح فى الروضة المعروفة بمطرح الجلَّة. وكان مولده بسبتة عام سبع وخمسين وستمائة»(10).

ثانيًا: مكانته العلمية:

أمَّا بالنسبة لمكانته العلمية، فلقد اعترف له الجميع بالسبق فى الميدان العلمى؛ إذ أشاد بهذه الناحية كل من تحدث عنه أو ترجم له من رجال عصره والعصور التالية؛ فأبو البركات البلفيقى يعتبره «من أهل المعرفة بعلم القراءات وصناعة العربية، وعلم البيان والعروض والقوافى والآداب، مشاركًا فى غير ذلك من الفنون»(11).

ويُنزله ابن الخطيب منزلًا ساميًا فيثنى على منهجه العلمى فى الرواية والسند ويقول عنه بأنه كان «واسع الأسمعة، عالى الإسناد صحيح النقل أصيل الضبط تام العناية بصناعة الحديث، قيمًا عليها بصيرًا بها محققًا فيها ذاكرًا فيها للرجال»(12).

وقد قال عنه ابن خلدون: «كبير مشيخة المغرب وسيد أهله، شيخ المحدثين الرحالة»(13) وهكذا لم يكن لأحد رأى يخالف ما سبقت الإشارة إليه فى هذه العجالة السريعة، مما جعله محل تقدير واحترام.

ثالثًا: تلاميذه:

ومما يدل على مركزه العلمى كثرة الآخذين عنه، والمتصفح لكتب التراجم يلتقى بتلاميذ كثيرين له من المغرب والأندلس وتونس والمشرق، ولا مجال هنا للإحاطة بهؤلاء فهناك ذكر لعدد كبير منهم فى كتب التراجم والفهارس، مثل فهرس الفهارس، والإحاطة، ونيل الابتهاج، والمرقبة العليا، ودرة الحجال، والأعلام للمراكشى…

ومن هؤلاء التلاميذ: عبد المهيمن الحضرمى(14)، وأبو العباس أحمد بن محمد بن شعيب(15)، وابن خميس الأنصارى(16)، ومحمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمسانى الأنصارى(17)… وغيرهم كثير.

رابعًا: مؤلفاته:

لم يقتصر دور ابن رشيد العلمى على التدريس وشغل المناصب المختلفة كالقضاء والإمامة والخطابة، ولكنه إلى جانب ذلك نظم ودوَّن وصنف فى العلوم المختلفة، مما أظهر مشاركته العلمية، وتعدد اختصاصاته، فتمكن من اقتحام ميادين المعرفة وارتياد حقول علمية متعددة، وهكذا كانت تآليفه موزعة بين العلوم العربية والإسلامية كالنحو والأدب والبلاغة والعروض والحديث…

ومن هذه المؤلفات(18):

1 – تلخيص القوانين فى النحو.

2 – إحكام التأسيس فى أحكام التجنيس.

3 – الإضاءات والإنارات فى البديع.

4 – حكم رؤية هلال شوال ورمضان.

5 – إفادة النصيح فى التعريف بسند الجامع الصحيح للبخاري وهو مطبوع بتحقيق د/ محمد الحبيب بلخوجه بتونس.

6 – ترجمان التراجم على أبواب البخارى.

7 – المحاكمة بين البخارى ومسلم.

8 – مسألة العنعنة.

9 – إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب.

10 – ملءُ العيبة بما جمع بطول الغيبة فى الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة.

خامسًا: مَلءُ العيبة (رحلته المشهورة).

وهى أهم مؤلفاته على الإطلاق؛ حيث دوَّن فيها مشاهداته ولقاءاته فى كل من مصر والشام والحجاز وتونس، وقد وقع الوهم فى هذه الرحلة، فالمستشرق كراتشكوفسكى يرى بأن لابن رشيد رحلتين مختلفتين يصف فى الأولى طريقه فى أفريقيا وهى المعروفة بملء العيبة، ويفرد الثانية للكلام عن أهل الحديث والفقهاء الأندلسيين(19)، وقد وقع فى هذا الخطأ أيضًا المستشرق بالنثيا حين وصف الرحلتين معًا بالشهرة(20).

وهناك اختلاف آخر بين الذين ترجموا لابن رشيد حول عدد أجزاء هذه الرحلة فإذا كان ابن شبرين يكتفى بوصفها بأنها «ديوان كبير»(21)، فهناك من الباحثين من ذكر أنها فى أربعة أسفار، فى حين أن هناك من يذكر بأنها فى ستة.

فالصفدى قد اطلع عليها فى أربعة أسفار أو أجزاء(22)، وابن القاضى يذكر كذلك أنها فى أربعة أسفار «جمع فيها من الفوائد الحديثية والفوائد الأدبية كل غريبة وعجيبة»(23)، وهو نفس عدد الأسفار الذى وقف عليه المقرى بتلمسان(24).

وفى المقابل فإن ابن حجر وقف عليها فى ستة مجلدات وانتخب منها الفوائد الكثيرة(25)، وهذا ما ذهب إليه كل من صاحب كشف الظنون(26)، وفهرس الفهارس(27).

– بواعث الرحلة:

على الرغم من أن ابن رشيد خرج فى وجهته إلى الحجاز يريد الحج(28)، فإنه لم يفتأ يتصل بالعلماء والشعراء ويبحث عنهم، ويسعى للقائهم، ويناظرهم، ويستفيد منهم، مما وجَّه الرحلة فى الاتجاه العلمى والأدبي، بدليل أن رحلته استمرت ثلاث سنوات قضى معظمها فى المراكز العلمية الشهيرة بمصر والحجاز ودمشق وتونس بصفة خاصة، وقد استأثرت العاصمة التونسية باهتمام ابن رشيد؛ حيث قضى فى مدارسها ومساجدها وبين علمائها وشيوخها حوالى خمسة عشر شهرًا، وبناء على ذلك فقد كان الجانب العلمي والأدبي هما الباعث الأهم فى الرحلة، وإن أكبر دليل على علو كعبه ميدان الشعر، ما نجده في رحلته من الأشعار الكثيرة من نظمه أو من النصوص الأدبية التي كان يجمعها ويختارها ويغوص في معانيها، ولو لم يكن لديه ميل إلى الرواية وحب في الجمع والتصنيف وحظ من الإبداع والذوق الرفيع لما حفلت رحلته بما يعدُّ ذخيرة مهمة في الإنتاج الأدبي لشعراء المغرب والأندلس، ولعل ذلك هو الذي جعل لسان الدين بن الخطيب يصفه بأنه «كان محافظًا على العربية ريان من الأدب»(29).

هذا بالإضافة إلى أن ابن رشيد كان يبدى أسفه فى أكثر من موقف عن عدم استيفائه لما يرغب فيه من العلم والرواية لباعث السفر أو لضيق الإقامة(30).

– مضمون الرحلة:

تقع رحلة ابن رشيد فى سبعة أجزاء، ولكن المعروف منها خمسة فقط، أمَّا الجزءان الآخران وهما الأول والرابع فيُعدَّان فى حُكم المفقودين وبضياعهما ضاعت بعض تفاصيل الرحلة ومراحلها المهمة.

أمَّا الجزء الثانى من الرحلة ففيه خلاصة النشاط العلمى لكل من ابن رشيد ورفيقه فى تونس حين الورود، هذا بالإضافة إلى أنه يعكس الجو العلمى والفكرى الذى كان سائدًا وقتئذ فى تونس، مما جعل الرفيقين يطيلان إقامتهما حوالى ثلاثة أشهر كانت حافلة بالاتصالات بالعلماء والشعراء والإجازات والدروس والمجالس العلمية والأدبية.

وهكذا تحدث عن بعض هؤلاء العلماء، إذ ترجم للكثير منهم، ومن هؤلاء العلماء الذين ترجم لهم ابن رشيد فى الجزء الثانى: الفقيه الراوية المسند المقرئ أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن حيان الأنصارى الأوسى الشاطبى الذى أُعجب ابن رشيد بعلمه فوصفه بأنه «أحد المكثرين سماعًا وتقييدًا وتحصيلًا لهذا الفن وتجويدًا، سمع العالى والنازل واقتنى من الأمهات والأجزاء كثيرًا، وكتب بخطه ما لا يُحصى واستجاز كل من أدركه شرقًا وغربًا»(31).

والفقيه الأديب الكاتب البليغ الحافظ الناقد العلامة أبو بكر محمد بن الحسن… ابن حبيش المرسى الأصل التونسى النشأة، وصفه ابن رشيد بأنه «كان متفنِّـنًا فى العلوم، متقدم القدم فى صناعة البيان، متمكن اليد من ناصية الإبداع والإحسان، تلج درر كلامه أصداف الآذان من غير استئذان، فريد فى دهره، أمير فى نظمه ونثره، أما النظم فبيده عنانه، وأمَّا النثر فإن مال إليه توكَّف له عنانه، مع تواضع زائد، على صلة مجده عائد، لقيته بمنزله ليوم أو يومين من مقدمى على تونس»(32)، وقد ذكر ابن رشيد فى هذه الترجمة شيوخ ابن حبيش هذا، وأشار إلى أنه رغم إجادته قول الشعر فإنه «لم ينظم بيت هجو قط»(33).

وفى هذا الجزء أيضًا يترجم ابن رشيد للشيخ الصالح المبارك الفاضل أبى عبد الله محمد ابن إبراهيم القيسى السلاوى، وهو «شيخ حافظ له رواية وذكر لنبذ من الأدب وحفظ لكرامات الأولياء، ذاكر لما شاهد منها، وأصله «سلا» وبها ولد وبها نشأ»(34).

كما صحب ابن رشيد هو ورفيقه مدة إقامتهما بتونس الفقيه المحدِّث الصالح الأديب أبو العباس أحمد بن ميمون الأشعرى فكانا يتردَّدان عليه فى بيتٍ بمسجدٍ هناك فيجدان عنده الخبز والماء فيأكلانه معه فيُسرَّ ويسرَّان بذلك؛ كما كان يشاركهما ويتردد عليهما ويؤنسهما أيضًا(35).

ويشعر ابن رشيد بالأسف؛ لأنه لم يتأتَّ له لقاء أعلام هناك بتونس إلى أن حان وقت الرحيل فانقطع أمله فى اللقاء، فلقد سعى إلى الالتقاء بالعالم الفقيه أبى محمد عبد الحميد ابن أبى الدنيا الذى كان يعانى فى ذلك الوقت مرضًا شديدًا، فمُنع ابن رشيد من الدخول عليه، مع أن الشيخ فى تلك الأيام كان حريصًا «على لقاء من رحل من المغرب راغبًا فيمن يستجيزه أو يأخذ عنه أو يسمع منه»(36).

وشَعُر ابن رشيد أيضًا بالأسف حين لم يتأت له لقاء عجوز لها شهرة كبيرة فى البلاد المشرقية، ويتعلق الأمر بآسية بنت عبد الرحيم بن طلحة، ومن قبيل الصدفة أن الذى ضيَّع عليه فرصة لقاء ابن أبى الدنيا هو نفسه الذى تماطل فى ترتيب لقائه بهذه السيدة الفاضلة إلى أن توفيت(37).

أمَّا الجزء الثالث من الرحلة فيترجم فيه ابن رشيد لثلاثة وأربعين علمًا ممَّن التقى بهم أو أخذ عنهم فى البلاد المصرية فى وروده عليها من المغرب.

ومع أن إقامته بهذه البلاد وهو فى طريقه إلى الحجاز لم تستغرق إلا نحو شهر ونصف، فإنه مع ذلك قد ملأ عيبته بأخبار العلماء وأسانيدهم وفتاويهم وأشعارهم وكتبهم وحصل على الإجازات وحضر الدروس وتردد على المجالس العلمية فى المساجد، والمدارس، ومنازل العلماء، ودكاكينهم، وفى الطريق أيضًا(38).

ومن العلماء الذين لقيهم بالإسكندرية الشيخ المحدِّث تاج الدين أبو الحسن الغرافى، وقد ذكره ابن رشيد فى آخر من ترجمهم من علماء الإسكندرية حين الورود معتذرًا بقوله: «وحقه أن يقدم، ولكن أردنا أن نجعله لمن لقيناه بالإسكندرية مسك الختام ودليل التمام»(39)، وقد اهتم به ابن رشيد فكانت ترجمته له تدل على ارتفاع مكانته عنده، كما أنه روى عنه أقوالًا وأشعارًا كثيرة، وأذن له الغرافى فى الرواية عنه بسند الإمام الشافعى، وسند البخارى(40).

ومن الذين لقيهم بمصر أيضًا ابن دقيق العيد، وصفه ابن رشيد «بالإمام الأوحد العالم العلامة المجتهد مفتى الإسلام، صاحب التصانيف الجليلة والمباحث الدقيقة مدرس المذهبين المالكى والشافعى بقيَّة العلماء الأعلام، وأول من لقيته بالمدرسة الصالحية بالقاهرة صدفة…»(41)، وسرعان ما أبدى ابن دقيق العيد إعجابه بابن رشيد وتقديره له بعد أن تناقشا فى حكم البسملة فى قراءة الفاتحة فى الصلاة حيث أظهر ابن رشيد اطلاعًا واسعًا وإلمامًا بآراء الفقهاء والأحداث التاريخية.

ويلقى بالصدفة أيضًا علمًا آخر بالقاهرة وهو الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النحاس، وصفه ابن رشيد بقوله: «أحد أعلام علماء الديار المصرية إمام فى العربية والآداب، وله نظم رائق ونثر فائق، وكرم ذات، وفضل أدوات ومروءة ظاهرة وخلق طاهرة ورواء وبهاء»(42).

ويحرص ابن رشيد على ذكر أول لقاء بينهما بجامع عمرو بن العاص بالقاهرة إثر صلاة العصر، فتعرَّف كل منهما على الآخر، وأعرب ابن النحاس، وهو فى حلقة الدرس، عن تقديره لآراء ابن رشيد وإعجابه بسعة علمه بعد أن أبان ابن رشيد عن اطلاع واسع، من خلال إسهامه فى المناقشات اللغوية والنحوية التى جرت فى هذه الحلقة.

ولم تقتصر لقاءاته على الرجال فقط بل التقى بالنساء أيضًا، إذ قرأ على الصالحة أم الفضل زينب ابنة الإمام عبد اللطيف البغدادى(43)، وحصل منها على الإجازة.

أمَّا الجزء الخامس من الرحلة فيتحدث فيه ابن رشيد عن واحد وثلاثين علمًا وشاعرًا ممَّن التقى بهم فى الحرمين الشريفين.

وعلى الرغم من انشغال ابن رشيد بتأدية فريضة الحج والقيام بمناسكه، إلا أنه كان حريصًا على لقاء العلماء والشعراء والفقهاء فى الحرمين الشريفين، فترجم لستة عشر منهم معظمهم من الوافدين على الحرمين للحج والزيارة أو الجوار.

ومن هؤلاء الذين ترجم لهم الفقيه المالكى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى الفاسى المنسوب إلى مدينة فاس، والمجاور بالمدينة المنورة، وقد قرأ عليه بداره فى المدينة المنورة جميع ثلاثيات البخارى(44).

والتقى وهو بمكة بالأخوين الفاضلين أبى عبد الله محمد بن أبى بكر بن خليل العسقلانى، وأخيه الصالح المبارك علم الدين أحمد وهما بمكة؛ حيث سمع عليهما وروى عنهما الأحاديث وحصل منهما على الإجازة له ولأبنائه(45).

والتقى من النساء بالشيخة الصالحة أم الخير أم محمد فاطمة بنت إبراهيم البطائحى، وكانت قد قدمت فى ركب الشام زائرة وحاجة، لقيها ابن رشيد بمسجد الرسول عليه الصلاة السلام، وقرأ عليها أحاديث، ثم أجازته فى جميع مروياتها(46).

وابن رشيد فى هذا الجزء (الخامس) كعادته فى باقى أجزاء الرحلة، يبدو دائب البحث عن العلماء للأخذ عنهم، وتحديد السند والرواية بلقائهم.

فيذكر أنه أثناء توقف الركب للاستراحة بمدينة حوران، وهو فى طريقه من دمشق، بحث عن أهل العلم فلم يجد أحدًا منهم(47).

ويجتمع فى تبوك بالشيخ الفاضل عفيف الدين أبى محمد عبد الرحيم البغدادى الذى قَدِم هو الآخر حاجًّا(48).

والملاحظة الجديرة بالذكر هنا هى أن ابن رشيد حرص فى هذا الجزء على وصف الطريق التى سلكها – على غير عادته فى باقى الأجزاء – من دمشق إلى المدينة، ثم إلى مكة المكرمة، كما حرص أيضًا على وصف الأماكن والمشاهد والتفصيل فى ذكر المناسك والعبادات والتنصيص على حكم الفقهاء وآرائهم مستدلًّا على ذلك بالقرآن والسنة وآراء الفقهاء واجتهاداتهم.

وبالنسبة للجزء السادس والسابع من الرحلة فإن كلًّا منهما يشكل سجلًا لمراحل الرحلة حين العودة من الإسكندرية إلى التحاق ابن رشيد ببلده سبتة، وعلى الرغم من طول زمن هذه الفترة، فإن تونس كان لها نصيب الأسد زمنًا وحظًّا فى الجزئين معًا وكأن ابن رشيد لم يكن قد اكتفى بما دونه من فوائد وما ترجمه من علماء تونس فى الجزء الثانى، فأراد إطالة المقام والتردُّد على المجالس العلمية التى فاتته من قبل وإكمال ما بدأه على العلماء الذين كان قد التقى بهم حين الورود، وهكذا يتكرر لقاؤه حين الصدور بتونس بعشرة من هؤلاء العلماء، هذا بالإضافة إلى العلماء الذين تجدد بهم اللقاء، ومنهم الأديب المقرئ الأستاذ أبو عثمان سعيد الذى التقى به فى المركب فاغتبط به وتأنس بصحبته ووصفه بأنه «مجيد فى السماع والغناء، وشأنه عجيب وله مشاركة فى العربية والأدب، مع ذات فاضلة وعقل جيد، وعفة ظاهرة»(49).

ومن أهم من التقى بهم فى تونس لأول مرة وأورد ترجمتهم ضمن الجزء السادس الفقيه القاضى الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس الجزائرى، وصفه ابن رشيد بأحد الفضلاء البارعين من رواة الأدب، رأى له ابن رشيد صناديق مليئة بالكتب؛ لأنه كان كثير العناية باقتنائها، وروى عنه كتاب المحصول للفخر بن الخطيب، والكشاف للزمخشرى، وكتاب الفائق فى شرح مشكلات الأحاديث…(50).

ومن هؤلاء أيضًا الشيخ الفقيه النحوى الإمام العالم المتفنن فى أنواع المعارف أبو إسحاق الخزرجى، ذكر ابن رشيد بأن له الكثير من التصانيف غير أنها تَلَفَت بموته؛ لأنه لم يخرجها من مسوداتها فى حياته(51).

ومن العلماء الذين التقى بهم فى تونس فى صدوره من الحجاز أبو الحسن على بن محمد الأندلسى، وأهم رواياته عنه ما يتعلق بالأدب، فلقد روى عنه الكثير من الأبيات والقصائد، وتبادل معه الرسائل والمخاطبات التى تظهر المستوى الأدبى لكل منهما، كما أنهما تناقشا فى مسائل أدبية وتناظرا، وفى كل مرة كان ابن رُزَين يبدى إعجابه بابن رشيد وبشروحه وآرائه(52).

أمَّا الأديب الشاعر أبو الفضل محمد بن أبى الحسن التجانى الذى شكلت ترجمته معظم الجزء السابع، فقد وصف ابن رشيد المجالس الأدبية التى كانت تجمعهما معًا، والمساجلات الشعرية والمسائل العلمية، قال عنه ابن رشيد: «صَحِبته – جزاه الله خيرًا – أيام مقامى بتونس بعد رجوعى من الحجاز، وذلك الزمان من أشرف ما اعتده من أيامى، وكان يتردد إلىَّ وأتردد إليه وبايتُّه كثيرًا، وذاكرته وشاعرته واستفدت منه، وأخذ عنِّى وأخذت عنه، وسمع بقراءتى وسمعت بقراءته، وأولانى من برِّه المبرّ ما يعجز عنه شكر شاكر، وكان لى صفيًّا، وبجانبى حفيًّا»(53).

ولعل هذا الأديب – من وجهة نظر الباحث – كان من أسباب المقام الطويل لابن رشيد بتونس، وذلك لارتفاع منزلة كل منهما عند الآخر، هذا بالإضافة إلى الصحبة والزمالة العلمية، وإقامة المجالس العلمية والأدبية والنزه، وإتاحة اللقاء بالعلماء والأدباء فى هذه المجالس؛ لأجل كل هذا طابت الإقامة لابن رشيد بتونس وطالت لتوفُّر الجو العلمى الذى يريده ويهواه.

وهكذا بقى ابن رشيد متحمسًا للقاء العلماء متلهفًا للأخذ عنهم والرواية لأسانيدهم إلى أن حلَّ بوطنه سبتة فى يوم الاثنين 22 جمادى الآخرة عام 686هـ(54).

المبحث الثاني: التشوق إلى المقدسات (الحجازيات)

المقصود بالتشوق إلى المقدسات أو الحجازيات هو أنها «قصائد شبيهة بشعر شعراء الحجاز الغزليين(55) من حيث رقتها وصدقها، ومن حيث قيامها عادة على ذكر أعلام جغرافية حجازية بعينها في الحل والترحال كذي سلم والعقيق وكاظمة والبيت، أما موضوعها وسببها فالتشوق للمنازل النبوية الشريفة، وقضاء فريضة الحج، وهما – أي: الموضوع والسبب – غير موضوع وسبب قصائد الغزليين الحجازية»(56).

ولما كانت القصائد الحجازية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشوق إلى سائر ربوع الحجاز الطاهرة وبالمدائح النبوية كانت غير حجازيات الغزليين من الشعراء، وإن كانت تشبهها من حيث رقتها وشفافية خطابها الشعري وتغنِّيها ببعض المنازل.

والحجازيات قصائد ورسائل نثرية(57) تفيض بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغمرها الشوق والحنين إلى زيارته صلى الله عليه وسلم، وهذا الشوق أذْكاه وأشْعله البُعْدُ المكاني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من تأجُّجِه حوادث الزمن وجِراحَاتُه التي لم تَنْدَمِلْ، هذا بالإضافة إلى تَكَالُبِ الأعداء على بلاد المسلمين وافتقاد النصير، وما أشبه الليلة بالبارحة حيث تكالب الغرب الأوربي على بلاد المسلمين ولم نجد وليًا ولا نصيرًا إلا المولى عز وجل.

وقد اشتهر المغاربة والأندلسيين بهذا اللون الأدبي اشتهارًا دفع صاحب صبح الأعشى إلى أن يقول عند حديثه عن الحجازيات: «وأكثر الناس تعاطيًا لذلك، أهل المغرب لبعد بلادهم ونزوح أقطارهم»(58)، ولا نعتقد أن نزوح الأقطار وحده هو الذي جعل أهل المغرب والأندلس يتعاطَوْن فن التشوق إلى الديار المقدسة أوالحجازيات أكثر من غيرهم؛ لأنها تتضمن – عدا شوق أصحابها إلى الرسول وحنينهم إلى طيبة – شكاوى كثيرةً من جَوْرِ الجائرين وتعسُّفِ الظالمين، وتخاذُلِ الأمراء والسلاطين عن نصرة المسلمين(59)، وكان بعض الملوك يضيفون إلى الهدايا الرفيعة الموجهة إلى أشراف مكة وأهل الحجاز رسائل(*) «… يهدونها لروح الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكدون فيها ولاءهم وإخلاصهم للجناب النبوي، ويتضرعون إلى الله – عز وجل – في حلّ أزماتهم»(60).

وتعد تائية القاضي عياض أقدم نص حجازي في التراث الأدبي المغربي(61) وقد ازدهر هذا اللون – أي: التشوق إلى الديار المقدسة – من الشعر بشكل ملحوظ أواخر الدولة الموحدية(62) إلا أنه لم يكتسب خصوصياته الفنية إلا في العصر المريني على يد طائفة من الشعراء «ممن خاطبوا الديار المقدسة متشوقين متأملين، متضرعين مبتهلين، شاكين مادحين، مصلين مسلمين على صفي الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم»(63)، وكان الشعراء في هذه الأحوال الروحية سواسية، سواء من زار منهم تلك الأماكن المقدسة في الواقع، أو من زارها في الوهم والخيال، ولكنهم كانوا متفاوتين في الأحوال الفنية كتفاوتهم في قدراتهم الشعرية.

وقد ورد مصطلح الحجازيات في كتابات أدباء القرن السابع وما بعده بالغرب الإسلامي، ومن ذلك قول ابن رشيد في ملء العيبة: «وقد آن أَن أُتْبِعَ ذلك بقصيدتين حجازيتين نظمتهما بعد رجوعي إلى بلدي، متشوقًا إلى تلك المعاهد…»(64)، وقول ابن عبد الملك المَرَّاكُشِيِّ: «رأيت أن أختم رسمه بقطعة وقصيدة حجازيتين ربانيتين»(65)، و«أنشدت عليه لنفسه من قصائده الحجازيات»(66)، وقول ابن الخطيب في الإحاطة: «ومن مقطوعاته البديعة – يقصد مقطوعات أبي عبد الله محمد اللوشي – من قصيدة حجازية…»(67).

وفي أزهار الرياض نصوص كثيرة من الحجازيات أقْدَمُها حجازية للقاضي عياض، ومنها حجازيات لكل من ابن أبي الخصال، وأبي زيد عبد الرحمن الفازازي، وابن الغماز وغيرهم(68).

ومن هذا يتضح أن مصطلح الحجازياتـ التشوق إلى الديار المقدسة – مصطلح أدبي شائع لدى كتَّاب المغرب والأندلس، ولم يكن جديدًا.

ونصوص التشوق إلى الديار المقدسة لدى شعراء المغرب والأندلس كثيرة، لكثرة دواعي النظم في هذا الفن ولانتشاره بين عامة الأدباء والكتَّاب، وكان انطلاق ركب الحج المغربي والأندلسي حدثًا يهيِّج عواطف الشعراء فينظمون ويكتبون، فارتبطت الكثير من نصوص الحجازيات بتواريخ محددة، فنجدهم يقدمون قصائدهم بقولهم مثلا: «وقلت وقد دخلت أشهر الحج وأنا بتونس سنة 685هـ»(69)، «وفي موسم عام ستة وثمانين قلت…»(70)، «وحل موسم عام سبعة وثمانين وستمائة فقلت:…»(71)، «وقال عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القدوم في حجه من عام أربعين وسبعمائة»(72).

وقد اشترك في كتابة هذا اللون الأدباء والأمراء(73) وتبارى الأدباء في تطريز قصائدهم، فلا نكاد نجد شهيرًا من بينهم لم يشارك برسالة نثرية أو قصيدة شعرية(74)، ولكن ضاع معظمها بضياع الدواوين والمختارات الشعرية.

وتتميز قصائد التشوق إلى الديار المقدسة بطولها الذي يسمح أو يتيح للشاعر أن يتطرق فيها إلى موضوعات كثيرة تتصل كلُّها بالغرض أو الموضوع الأساسي، ولم يكن فيها مجال للمديح السياسي؛ لأن القصيدة كلها تنصرف على وصف ما يعانيه ناظمها ويكابده من شوق إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

يستهل شعراء الأندلس قصائد التشوق إلى الديار المقدسة بإعلان شوقهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيفيضون في وصف أشواقهم لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبرون عن رغبتهم في أن يَقْتَطِفُوا ثمارَ القُرْب، ويكْتَحِلُوا بالثَّرى الطاهر، ويتَفيَّئُوا تلك الظلال الوارِفة، ثم يمعنون في وصف ما يكابدون من أشواق، ويتوسلون إلى ذلك بأساليب العشاق من المتصوفة وشعراء الغزل، فيذكرون النسيم والصبا والسراب، ومن ذلك قول ابن رشيد لسبتي(75): الطويل

أَقُولُ إذَا هَبَّ النَّسِــــيم المُعَطَّــر          لعَلَّ بَشِيْرًا باللقَــــاءِ يُبَشِّــــــرُ

وأَذْكُرُ أَوْقَاتِي بِسَلْمَي وبالحِمَى          فَتَذْكُو لَظىً في أَضْلعِي حِينَ أَذْكُرُ

رُبُوعٌ يَودُّ المِسْك طَـــيْبَ تُرابَها           ويَهْوى حصىً فيها عَقيْق وجَوهَرُ(76)

ويتمادى الشاعر في اصطناع أساليب العشاق فيذكر أيامه إلى جانب المحبوب، ويتحسر وَيَتَفَجَّع شأن المتهالكين من العشاق، فيقول: الطويل

رَعَى الله عَهْدًا بالمُصَلَّى عَهِدتُه        ورَوضُ المُنَى غَضٌّ يرقُّ ويَنْضُر

زمانًا نَعِمْنا فِيه والظلُّ وارفٌ            بِجَنَّاتِ عَدْن تَحْتَها العَذْب يَخْضُر

بحيثُ يُرَى بَدرُ الكمالِ وشمسُه         وروضَةُ فِردَوْسٍ وحوضٌ ومِنْبرُ(77)

ويشخص الشاعر محبوبه في امرأة ذات جمال وبهاء على عادة شعراء المتصوفة، فيتذلل أمامها، ويعفِّرُ خده، فيقول: الطويل

أرومُ دُنُوًّا من بَهاءِ جَمالِها              ولثْمًا فتَأبَى هَيْبةً وتَوَقُّر

خضَعتُ وذُلِّي للحبيب تَعزُّزٌ           فَطَرْفيَ مَغضُوضٌ وخَدِّي مُعَفَّر

ووجْهُ سروري سَافرٌ مُتَهلِّلٌ              وحالي بهم حَلَا، وعَيْشىَ أخْضَرُ(78)

ويجاري شعراء التشوق إلى الديار المقدسة شعراء العشاق في وصف عذابهم من شدة الوجد وفَرْط الصبابة، يقول ابن رشيد السبتي: الطويل

رَمَاني زَماني بالفِراقِ فَعزَّني            عَلى مِثل مَنْ فَارقْتُ عَزَّ التَّصَبُّر

وأضْمَرتُ أَشْجَاني ودَمْعيَ مُظْهرٌ       وأَسْرَرْتُ هِجْرَاني وحَالِي تُخَبِّر

فَمِن أدْمُعي مَاءٌ يَفِيضُ ويَهْمُر         ومِنْ أضْلُعي نَارٌ تَفُور وتُسْعِر

وجسميَ مُصْفَرٌّ وفَوْديَ أبيضٌ          وعَيْشِيَ مُغْبَرٌّ وجَمْعيَ أَحْمرُ(79)

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن شعراء التشوق إلى الديار المقدسة قلَّما يلتفتون في قصائدهم إلى مدح الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلا ما كان من مدح يرد عرضًا ضمن معان أخرى، وذلك على خلاف ما نجده في القصائد المولدية وغيرها من الشعر الديني حيث يطيل الشعراء الكلام عن كمالات الرسول ومعجزاته صلى الله عليه وسلم.

ولم نجد أحدًا من شعراء التشوق إلى الديار المقدسة في المغرب أو في الأندلس – غير العبدري(80) – يخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالمديح في حجازيته على أنه لم يمدحه إلا بعشرة أبيات من قصيدة يزيد عدد أبياتها على سبعين بيتًا، ومن حجازية العبدري قوله: الكامل

وانْثُر نِثَار الجَـفْن مِنْك فَإنَّه             حَقٌّ على مَنْ زَار رَبْعَ مُحَمَّدِ

خَيْرُ الأنَامِ رَفيعُهم ورَبِيْعُهم             وشَفِيعُهم في هَولِ يَوم المَوعِد

خَيرُ الأَنَامِ حَسِيبُهم ونَسِيبُهم            وطَبيبُهم مِنْ كُلِّ دَاءٍ مُقْصَدِ

خَيرُ الأَنَامِ نَبيّهم وَوليّهم                        عَليمهم أعْظِم به من سيد(81)

ومن شواهد التشوق إلى الديار المقدسة، أيضًا، قول ابن رشيد السبتي في موسم عام 687هـ عندما سمع ماهيج شوقه من النداء على سفر بعض المراكب إلى أرض الحجاز: البسيط

أَهْوى الحِجَازَ وإِن لم يُمْسِ لِي وَطنًا            ولم يَكُن أهْلُه أهْلِي وجِيرَانِي

طَافَ السُّقَاةُ على شِرْبِ الهَوى فَدعَوْا            باسمي فلَبَّاهُمُ دَمْعِي وأشْجَاني

قَالوا الشَّرَابَ فَقُلتُ الدَّمْعُ أغنَانِي                        َالوا النَّدامي فَقُلتُ الوَجْدُ نَدْمَاني

قَالوا النُّهوضَ فَقُلتُ العُدْمُ أقْعَدَنِي               قَالوا التَّصَبُّرَ قُلتُ الشَّوقُ أفْنَانِي(82)

أراد صاحبنا هنا أن يعطينا صورة واضحة عن مدى أثر تلك الذكرى في نفسه وعقله حتى صار فؤاده جَذْوةً من الشوق واللهفة والحنين لا ينطفئ وقودها، بل إنه يستشهد بالصور التي عبر عنها بعض الصوفية في أشعارهم لتمثيل المواقف والأحوال كالهوى والوجد والصبر والفناء والخمر، هذا بالإضافة إلى الحوار الذي أضفى على القصيدة نوعًا من الحياة والحركة.

وبعد أن استعرض الشاعر أحاسيسه ومشاعره عرج على طيبة وساكنها محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليسلِّم عليه ويحييه، فيقول: البسيط

وحينَ لاحَتْ لنَا مِنْ طَيبةٍ قُببٌ         زَواهِرٌ هِيَ والجوْزَاءُ سِيَّان

مِلْنَا نُحَيِّيه والإجْلالُ يُوقِفُنا             والشَّوقُ يُزِعِج ما يَثْنِيْهِ مِنْ ثَان

فَظَلْتُ أهتَزُّ مِنْ وجْدٍ ومِنْ ولَهٍ          والدَّمْعُ مَا بين تَسْكَابٍ وتَهْتَان

مَنْ ذَا يَرى ريحَ مَحْبُوبٍ فيصْبوَ عَنْ    لَثْمٍ وتَصْفيرِ خَدٍّ فِعْلَ ولْهَان

في طَيبةٍ نِلتُ مَا قَدْ طَابَ مِنْ أملٍ     نَجْني ثِمَارَ الأَمَانِي قِطْفُها دَان

عَليهِ مِنْ رَبِّنَا أزْكَى تَحَّيتِه              ما غَرَّد الطَّيرُ في أفَياءِ أفْنَان(83)

ومما ذكره أبو العباس المقري أن القاضي عياضا قال في معرض زيارة الرسول – صلى الله عليه وسلم – منشدًا لنفسه أبياتًا أجاد فيها غير أنَّ بيتًا فيها ضعيف المعنى ينافي ما قصده من تفخيم الزيارة وتعظيمها(84) وهو قوله: الكامل

لولا العَوَادِي والأَعَادِيَ زُرْتُها            أَبَدًا ولو سَحْبًا على الوَجَنَاتِ(85)

فجعل العوادي والأَعَادي تصد عن زيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحبيب إذا تمكَّنت محبته من القلب لا يصدُّ عن زيارته شيء ولو أتى ذلك على هلاك نفسه، ثم أردف المقري قائلًا: ألا قال عياض كما قال ابن رشيد السبتي: الطويل

هو القَصْدُ إذْ غَنَّت بِنَجْدٍ حُدَاتُنا        وإلا فَمَا نجدٌ وبدرٌ وريَّاه

وتَاللهِ لو أَنَّ الأسِنَّة أُشْرِعَتْ             وقَامَتْ حُروبٌ دُونَه ما تَرَكْنَاه(86)

ونستخلص من ذلك التعليق أن ابن رشيد وفِّق في المعنى السابق أيما توفيق، ومن سوء حظنا أنه لا يوجد بين أيدينا إلا هذان البيتان ويُحْتَملُ أن يكونا ضمن إحدى قصائد ابن رشيد الحجازية الطويلة التي ضاعت – كما ضاع غيرها – بضياع الدواوين والمجاميع والمختارات الشعرية.

وقد كان لحنين أهل الأندلس وتشوقهم للأماكن المقدسة لون خاص، نَبع من بُعد بلادهم عن الحجاز، وما يتجَشَّمُونه في الرحلة إليها، فكان الوصول إلى الأماكن المقدسة عندهم غايةً لا تُدرك، وأمنيَّة الأماني، وخاصة في الأوقات التي ينقطع فيها الطريق، وتحفُّه المخاطر في البر والبحر(87).

وقد سكنت في مسامعهم أسماء الأماكن التي شهدت انبثاق الدين الإسلامي، وشهدت صراع المسلمين مع المشركين وتقلّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، داعيًا مجاهدًا متلقيًا لوحي السماء، وبانيًا أسس الدولة العربية الإسلامية.

لذلك يجتاحهم شوق جارف لرؤية هذه الأماكن، فإذا قعدت ببعضهم الموانع عن تحقيق رغبتهم الملِحَّة التي تسكُن نفوسهم، يكون حالهم مثلما وصفه ابن العريف (88) في قوله: البسيط

شَدُّوا المَطيَّ وقَدْ نَالوا المُنَى بِمِنى      وكُلُّهم بأَلِيْمِ الشَّوقِ قَدْ بَاحَا

سارَتْ رَكَائِبُهم تَنْدى رَوَائِحُها           طِيبًا بما طابَ ذَاكَ الوَفْدُ أَشْباحا

نسيمُ قَبْرِ النَّبيِّ المُصْطَفى لهمُ         رَوحٌ إذا شَرِبوا مِنْ ذِكْرِه رَاحا

يا واصِلين إلى المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ      زُرْتُمْ جُسُومًا وزُرْنَا نحن أرْوَاحَا

إنا أقمنا على عُذْرٍ وعن قَدَرٍ           ومن أقام على عذر كمن راحا(89)

ولننظر إلى مدى التشوق الذي يشعر به الأندلسيون والمغاربة تجاه المقدسات، حينما يقول مالك بن المرحل في إحدى قصائده الحجازية متشوقًا إلى الحرمين الشريفين: البسيط

شَوقٌ كَمَا رُفِعَت نَارٌ على عَلَم          تَشَّبُ بين فروع الضَّال والسَّلم

ألفُّه بضُلوعي وهو يُحْرِقُها              حتى بَرَانِيَ بَرْيًا ليس بالقَلم

مَنْ يَشْتَرينيَ بالبُشْرى ويمْلِكُنِي         عَبْدًا إذا نَظَرَتْ عَيني إلى الحَرَم

يَا أهل طِيْبَةَ طَابَ العَيْشُ عندكمُ       جَاوَرْتُم خَيرَ مَبْعُوثٍ إلى الأُمَم

عَايَنْتُم جَنَّةَ الفِرْدَوسِ عن كَثَبٍ         في مَهْبِط الوَحْي والآيَات والحِكَم

لنَتْرُكَنَّ لها الأوَطَانَ خَاليةً              ونَسْلُكَنَّ لها البَيْدَاءَ في الظُّلَم

ركابُنا تَحْمِلُ الأَوْزَارَ مُثْقَلةً              إلى محطِّ خَطايا العُرْب والعَجَم

ذنُوبنا يا رسول الله قَدْ كَثُرت           وقد أتَيْناكَ فاسْتَغْفِر لمُجْتَرِم(90)

ويقول ابن المرحل في قصيدة أخرى: الطويل

بَرَتْنِي يَدُ الأشْواقِ بَريًا وكَيفَ لا                ومَثْواه في شَرْق ومَثْواي في غَرْب(91)

ويقول في أخرى متمنيًا الوصول إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم: الطويل

تَمنَّيتُ والإنْسَان يُولع بِالمُنى           بُلوغًا إلى المَبْعُوثِ في خَير أمَّةِ

تَمسَّكْتُ في أَمْرِي بذِمَّةِ حُبِّه            وذِمَّةُ خَيرِ الخَلْقِ أكرمُ ذِمَّةِ

تَملَّكني في حُبِّه، إِنَّ حبَّه              أمانٌ لروحي في المَعَادِ ورِمَّةِ(92)

وقد جمعت الظروف التاريخية بين الأندلسيين والمغاربة في كثير من الأحيان، كما قربت بينهما الجغرافيا، ولذلك نراهم يشتركون في الكثير من ملامح هذا الغرض الشعري؛ الذي ظهر عندهم في العديد من المناسبات كما ظهر في كل الرحلات التي كان المغاربة والأندلسيون يحرصون على تدوينها، بعد عودتهم من الديار المقدسة؛ ليمكنوا أصحابهم من الاستمتاع بزيارة تلك البقاع بخيالهم ومشاعرهم، بعد أن عجزوا أو حالت الظروف بينهم وبين القيام بتلك الرحلة الروحانية، وقد اتضح ذلك من خلال النماذج الشعرية التي استشهدنا بها فيما سبق.

والأندلسيون كغيرهم من المسلمين يؤمنون بأن الحج ركن من الأركان التي يجب المسلم تأديتها متى استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن الظروف التي ذكرنا بعضها تحول بين بعضهم وبين أداء هذا الواجب المقدس؛ الذي يلح عليهم مرتين كل سنة، حيث كان من عادة أهل الأندلس والمغرب أن يحتفلوا بالمولد النبوي الشريف، وهي مناسبة ترحل فيها عقولهم ومشاعرهم إلى تلك الديار التي شهدت مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – واحتضنت معجزاته، وشهدت فجر رسالته التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ولكن مناسبة توديع الحجاج وفراق مواكبهم – كما ذكرنا سابقًا – كانت أكثر إثارة لهذا النوع من المشاعر لدى المتخلفين – وخاصة العاجزين منهم – الذين تشتد بهم الأشواق ويجرفهم الحنين فتسافر قلوبهم وترحل أرواحهم مع الراحلين، ولا يبقى لهم إلا تلك الأجساد المحطمة التي أضناها الشوق وحالت الظروف بينها وبين الرحيل مع تلك المواكب التي كُتبت لها زيارة الديار المقدسة، والتمتع بالجوار والسلام على الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك يقول ابن أبي الفضل وقد تتبع الرواحل راحلة بعد راحلة حتى مشى الحجاج عن آخرهم: الطويل

أَحُجَّاج بَيْتِ الله في أيِّ هَوْدَج          وفي أيِّ خِدْرٍ مِنْ خُدُورِكُمُ قَلْبي

أأبْقَى رَهَينَ الشَّوْقِ في أرْضِ غُربَة      وحَادِيكم يَحْدُو بقَلْبي مع الرَّكْب

فوا أسفَا لم أقْضِ مِنْكم لُبَانَتي           ولم أتَمتَّع بالجِوارِ وبِالقُرْب

يَقُولون هذا آخرُ العَهْد فيكمُ            فَقُلتُ وهذا آخِرُ العَهْد من قَلبي(93)

وإذا ما أُسْعِفَ أحدهم بالوصول إلى الديار المقدسة، وشاهد – على البعد – المدينة المنورة، اتَّقد شوقه وزاد وجده، وعلت همته، وأسرع بالمسير على الأقدام – على الرغم من بعد السفر وشدة الجَهْد – وانتابته مشاعر الهيبة والقداسة وشعر كأنه دخل عالمًا آخر أو تهيأ للدخول.

وقد وصف ابن رشيدالسبتي ذلك حين شارف ركب الحاج المدينة المنورة، فقال: «لما قدمنا المدينة، ومعنا الوزير أبو عبد الله بن أبي قاسم بن الحكيم، وكان أرمدا، فلما دخلنا ذا الحُلَيفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلَّ تلك الديار، فأحسَّ بالشفاء، فقال: الطويل

ولمَّا رَأَيْنَا من ربُوع حَبيبِنا              بَيَثْرِبَ أعْلامًا أَثَرْنَ لنا الحُبَّا

وبالتُّرْبِ مِنها إِذْ كحَلْنا جُفونَنَا          شُفِينا فلا بَأسًا نَخافُ ولا كَرْبا

وإنَّ بَقَائي دونَهُ لخسَارةٌ                 لو أن كَفِّي تملأ الشَّرْقَ والغَرْبا(94)

وإذا كان بعض الشعراء قد اعتنى بوصف الركب الحجازي مُذْ تأهَّب للمسير ورافقه بخياله، راصدًا ما ينتابهم من أحاسيس وما يعتريهم من تعب وإرهاق، فإن القاضي أبا يزيد البلوي – وقد زار الأراضي المقدسة وعايش تجربة الحج أكثر من مرة – يطلعنا على بعد آخر من المشاعر التي تنتاب الحاج وقد تحقق حلم طالما راوده، فها هي ربوع يثرب ومعالمها تطل من بعيد مثيرة السرور والفرح في نفوس الركب، وها هي مواطن الوحي ومنازله، وتلك مواطيء خير من وطيء الثرى، وراح يتفقَّد بعينيه كل مكان، فقال: الكامل

الله أكبرُ حَبَّذَا إِكبَارَهُ                   ذا الشَّفيعُ لنا وهذي دَارُه

لاحَتْ مَعَالمُ يَثْرِبٍ وربوعُها             مَثْوى الرَّسولِ ودَارُه وقرارُه

هذا النخيلُ وطَيبةٌ ومحمدٌ              خَيرُ الورى طرًّا وها أنا جَارُه

هذا المُصَلَّى والبَقيعُ وها هنا           رَبْعُ الحَبيبِ وهذه آثارُه

هذي منازلُه المعَظمةُ التي             جِبريلُ رُدِّدَ بينها تَكْرارُه

هذي مواضعُ مَهْبِطِ الوحْي الذي                تُشْفي الصُّدورَ من العمى أسْطَارُه

هذي مواطيءُ خَيرِ مْنْ وَطِيءَ الثَّرى   وعلا على السَّبع العُلَى اسْتِقْرارُه

ملأ الوجُودَ حَقيقَةً إشراقُهُ               فَأضاءَ منه ليلُه ونهارُه

والروضةُ الفَيحاءُ هبَّ نَسِيمُها          والبَانُ بَانَ ونَمَّ منه عَرَارُه

بُشْرَاكَ يا قَلبي فَقَدْ نِلْتَ المُنى          وبلغْتَ ما تَهوى وما تَخْتَاره

وتَحلَّ يا طرفي فَيا لك نَاظِرًا            أبْصَرْتَ طَيْبةَ فانْقَضَتْ أوطَاره

قَدْ أمْكنَ الوصْلُ الذي أمَّلتُهُ            وكذاك حُبِّي أمكنتْ أسْراره

قد كان عِنْدي لوعةٌ قبل اللِّقا           والآن ضَاعفَ لوعَتي إبْصَاره

رفْقًا قليلًا يا دموعِيَ أقْصِري            فَالدَّمعُ يحسنُ في الهوى إقْصَاره(95)

ومن القصائد المعبرة عن فرحةِ المسلم الصادق الإيمان والنية وهو بالقرب من البقاع المقدسة، هائية القبتوري(*) التي يقول فيها: الكامل

الله أكبر لاحَ بَيْتُ إلهي                مُتَسَرْبلًا خِلَعَ السَّنا والجَاهِ(96)

وفي هذه القصيدة يقول القبتوري وقد اعترته حالة من الخضوع والخشوع بعد أن نزل بالبيت الشريف، وأخذت عظمة قدسيته بمجامع قلبه: الكامل

أعْظِم به بيتًا تَضَاءَلتِ البُيو           تُ السَّامِيَاتُ لعُظْمِه المُتَنَاهي

مَهْوى قُلوب العَالمين المعتزي          للعِزِّ فيه جَلَّ عَنْ أشْبَاه

تَغْدو الملوك لَدَيْهِ صَاغِرة معفّـ          ـرة لأشَمَخ آنُفٍ وجِبَاه

أوْزَارُ زَائِره تُحَطُّ وَرِفْدُه                  ِلْءُ السماءِ، به الإله يُبَاهى

قَرَّتْ نَواظر كُلَّ رَاءٍ مَتَّعَ الْـ             لحَظاتِ في ذَاك الرُّواء البَاهي(97)

ومن الشعراء الذين هاجتهم الذكرى بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واشتدَّ بهم الحنين إلى البقاع المقدسة؛ ابن زمرك شاعر الحمراء الذي قال في إحدى مولدياته:

لو كُنْت أعْطى من لِقَائِك سُولا         لَمْ أتَّخِذ بَرق الغَـمَامِ رَسُولا

أو كُنْت أَبْلُغُ من قبولِك مَأمَلِي         لم أودع الشَّكوى حبا وقبولا

وبعد مقدمة شبه غزلية، ينتقل إلى وصف ركب الحجاج وما تركه رحيلهم في نفسه من لواعج الشوق والحنين، فيقول:

مَن ينـجِد الصَّبْر الجَمِيل فَإنَّه          بعد الأحِـَّبة قد أجد رحـيلا

كيف التَّجَمل بَعْدهم وأنا الذي          أنسِيت قيسا في الهوى وجَمِيلا

من عَاذِري والقَلبْ أوَّل عَاذل           فيـمن أفنـِّد لائِما وعَذُولا

أتبـعت في دين الصبابة أمَّة            ما بَدَّلوا في حُبِّـهم تَبْـدِيلا

يا مَورِدا حَامَت عَلـيه قُلُوبُنا             لو نيل لم تَجْرِ المَدَامِـع نِيلا

ما ضَرَّ مَنْ رَقَّت غَلائِله ضُحَى                لو بَاتَ ينقع للمُحِب غليلا

كَمْ ذا أُعَلِّلُ بِالحَديثِ وبالمُنَى           قَلبًا كَمَا شَاءَ الغَرَامُ عَلِـيلا

…………………….              ………………………

يا رَاحِلينَ ومَا تَحْمِلُ ركبُـهمُ             إلا قُلُوب العَاشِقِـينَ حُمولا

نَاشَدْتكم عَهْدَ المَودَّةِ بَيْنَنَا               والعَـهْد فِينَا لمْ يَزَلْ مَسْئُولا

مَهْمَا وصَلْتُم خَيرَ من وطِئَ الثَّرَى      أنْ تُوسِعُوا ذَاكَ الثَّرى تَقْـبِيْلا

يا ليت شِعري هَل أعرِّس ليلَةً          فأشُمّ حَولي إذخرا وجَلِيْلا

وأحُطُّ في مَثْوى الرَسُولِ رَكَائِبي         وأبِيتُ للحَرَمِ الشَّرِيفِ نَزِيلا (98)

وصاحبنا هنا لا يختلف عن غيره من الشعراء من حيث اعتماده على أسلوب يوحي بأن تشوقه إلى الديار المقدسة كان قويا، ولكنه يعبر عن أمله الضعيف في الوصول إلى تلك البقاع الطاهرة؛ فإذا كان قوله: «كم ذا أعلل بالحديث وبالمنى» يعبر عن شدة ما يعانيه من تلك الأشواق، فإن قوله بعد ذلك: «يا ليت شعري هل أعرس ليلة» يوحي بأن أمله لا يعدو أن يكون نوعا من التمني، والتمني كما معروف طلب لما لا يرجى تحققه.

ولم يقتصر التشوق إلى الديار المقدسة على الشعراء فحسب، وإنما كان الشوق والحنين إليها مما يشترك فيه جميع الأندلسيين، وخاصة أولئك الذين عجزوا عن أداء فريضة الحج لأي سبب من الأسباب –

وقد كان ملوك الأندلس يرسلون رسائلهم إلى الحضرة النبوية؛ ليعبروا عن عجزهم وقلة حيلتهم، ويعتذرون عن تأخير الزيارة، غالبا، بانشغالهم بالدفاع عن الإسلام والمسلمين والوقوف ضد النصارى الإسبان.

ومن الشعراء الذين كتبوا إلى المقام النبوي على ألسنة ملوكهم الشاعر الكاتب لسان الدين بن الخطيب الذي كتب رسالتين: الأولى على لسان السلطان أبي الحجاج يوسف بن نصر، والثانية على لسان ولده السلطان محمد الخامس الغني بالله، وقد احتوت كلتاهما شعرا ونثرا، ولكننا سنكتفي هنا بالجانب الشعري من الرسالة الأولى؛ التي افتتحها بقوله:

إذا فَاتَنِي ظِل الحِمى ونَعِـيمه           فحسبُ فؤادي أن يَهُـبَّ نسيمُه

ويُقْنِـعُني أنِّي به مُتَكنـفٌ                       فَزَمْزَمُه دَمْـعِي، وجِسْمِي حَطِيمُه

يَعُودُ فُؤادِي ذِكرُ مَنْ سَكَنَ الغَضا      فيُقْعِدُهُ فوق الغضا ويُقِيْمُه

ولَمْ أرَ شيْئًا كَالَّنسِيمِ إِذَا سَرَى           شَفَى سَقَمَ القَلْبِ المَشُوقَ سَقيمُهُ

نُـعَلِّلُ بِالتَّذْكار نَفْسًا مَشُوقَـةً             نُدِيرُ عَليـها كَأسَهُ ونُديمـُهُ

وما شَفَّنِي بِالغُور قدٌ مُرنّح              ولا شَاقَنِي من وحش وجرَةَ ريمـُهُ

ولا سَهَرَت عَيـني لِبرق ثنية             من الَّثـغْرِ يَبْدُو موْهنا فأشِيمُه

بَرَانِي شَوقٌ لِلنبي محَـمد                        يَسومُ فُـؤادِي برحُهُ ما يسـومه

ألا يَا رَسُول اللهِ نَاَداكَ ضَارِعٌ           على النَّأي مَحْفوظُ الودَادِ سليمه

مَشُـوقٌ إذَا مَا الليلُ مَدَّ رَواقَه            تَهمُّ بِه تحت الظَّلامِ هُمـومُه

إِذَا ما حَدِيثٌ عَنكَ جَاءَت بِه الصَّبا     شَجَاه من الشَّوقِ الحَثِيثِ قَدِيمه(99)

ويقول ابن الخطيب – أيضًا – ضمن هذه القصيدة على لسان سلطانه انشغل عن الزيارة بالدفاع عن الإسلام والمسلمين في بلاد الأندلس:

وكَانَ بودِّي أَنْ أًزُورَ مُبـوأ              بِكَ افْتَخَرت أطْلاله ورُسُـومُه

وقد يُجهد الإنسانُ طرف اعْتزامِه       ويُعوزه من بَعْدِ ذَاكَ مَرومُه

وعُذْريَ في تَسْويفِ عَزْميِ ظَاهر       إذَا ضَاقَ عُذر العُزمِ عَمّن يَلومُه

عَدَتْنِي بِأقْصَى الغَربِ عَن تُربك العِدا  جلالقة الثغرِ الغَرِيبِ ورُومه

أُجَاهِد منهم في سَبيلك أمـةً             هي البحرُ يُعـيي أمرُها من يرومه

فلولا اعتناءٌ مِنكَ يا ملجأ الوَرى         لريعَ حِماه واسْتُبِيحَ حَرِيـمه

فلا تَقطَعِ الحَبلَ الذِي قَد وصَلْته                فمَجْدُكَ مَوفُور النَّوالِ عَمِيمُه

وأنتَ لنا الغَيثُ الذي نَستَدرُّه            وأنتَ لنا الظِّلُّ الذي نَسْتَدِيمُه

ولمّا نَأتْ دَارِي وأعوز مَطْمَعِي         وأقْلَقَنِي شَوقٌ يشب جَحِيمُه

بعثتُ بها جهدَ المقل معولا            على مجْدِك الأَعْلى الذي جَلَّ خِيمُه(100)

والشاعر في هذه الأبيات لا يختلف في أشواقه إلى البقاع المقدسة عن عامة المسلمين، وإن كانت ظروفه مختلفة عن ظروفهم؛ لأنه مسئول عن حماية المسلمين والدفاع عنهم في الأندلس وهي مسئولية لا تقل أهمية عن فريضة الحج.

وتستوقف القبة الزهراء معظم شعراء التشوق إلى الديار المقدسة، فهي أول ما يبدو لهم وقد أشرفوا على المدينة المنورة، يصفها صاحبنا ابن رشيد السبتي في إحدى قصائده، فيقول: الطويل

ولِلقُبَّة الزَّهْرَاءِ سَمْكٌ سَما عُلًا           ورَاقَ سَنًى كالشَّمسِ بَلْ هو أزَهَرُ

لها مَنْظَرٌ قَيْدُ النَّواظر والنُّهى           لها سَاكِنٌ من نُورِه البَدْرُ يَبْدُر(101)

وتتضاءل قصور كسرى وقيصر أمام القبة الزهراء، وتخر لها كل الجبابرة في كل زمان ومكان، وبجوارها يستعيد الشاعر وجوده، ويستردُّ أنفاسه التي خنقها الطغاة والمعتدون.

وقد فجَّرت حركة ركب الحاج المغربي والأندلسي – كما سبق أن ذكرنا – أحاسيسَ الخيبة والذنب لدى أولئك الذين أقعدتهم صروف الدهر، ومُثَبِّطَاتِ الحياة الدنيا عن التطهر وغفران الذنوب بزيارة أرض الرسول الحبيب الشفيع – صلى الله عليه وسلم – فكان أن ولَّد البعْدُ المكاني والقعود عقدة الذنب لدى ابن عسيلة(102) في تذييل له على قصيدة امرئ القيس اللامية، فقال: الطويل

إلى طَيْبَةٍ طَابَ الغَرَامُ لمهجَتِي         ولَيْسَ صبَاي عن هَواهَا بمنْسَلِ

وكمْ لائمٍ فِيهَا تَثَنَّى وعَاذِلٍ              نَصِيحٍ على تَعْذَاله غَيْرِ مؤْتلِ

ومَازَالَ إشْفَاقِي من البُعْدِ قَادِمًا          علىَّ بِأَنْواعِ الهمومِ ليَبْتَلِي

يذكِّرُني ليلَ الفلاةِ وقَدْ غَطا             وأردفَ إعجازًا وناء بكلكل

أنَاشِدُه لَيْلَ التَّنَائِي أَتَنْجَلي              بِصُبْحٍ وما الإصْبَاحُ منك بِأَمْثَلِ(103)

وعند دخول أشهر الحج تأججت عاطفة العبدري الدينية، وتذكر ما كان له بتلك المعاهد الشريفة أيام العَجِّ والثَّجِّ، وهو يؤدي فريضة الحج ويجالس العلماء والمشايخ ليُنْهِيَ الشطر الأول من رحلته، فيتمنى العودة للاغْتِنَاء الروحي من جديد، ويُفْصِح عن رغبته الدائمة التي لا تشبع من وصال محمد المصطفَى، صلى الله عليه وسلم، حتى ولو أنْحلت المحبةُ جسمه، وأجرى الشوق دموعه دمًا، فياليتها – أي: البقاع المقدسة – تكون المُعَرَّس والمَقِيل على حد تعبيره، يقول: الطويل

ألا لَيْتَ شِعْرِي هَل يُسَاعِدُنِي الوقْتُ    وتُدْنِي لِيَ الأَيَّام ما نَحْوَه تُقْت

وهَل لي إلى تِلكَ المَعَاهِد عَوْدَةٌ         فَسكْنى مَغَانٍ قُرْبُها كلُّ ما اشْتَقْت

وكنْتُ على أن لا أُفَارِق رَبْعَها          ولكِنّني مِنْ شُؤمِ ذَنْبيَ عُوِّقْتُ

كأن لم يَكن لي في المُحَصّب مَنْزِلٌ    بِه مِنْ ضَنى جِسْمِي وقَلبيَ أفْرَقْت

ولم يَصْفُ عَيْشِي بالصَّعُودِ على الصَّفَا   ولا أَنَّنِي من صَفْو حَالٍ بِهَا ذُقْتُ(104)

وفي هذا المعنى يقول ابن رشيد السبتي في موسم عام 685هـ، وقد دخلت أشهر الحج فتذكر أيام العج والثج: البسيط

يا أشْهُرُ الحجّ قَدْ هَيَّجْتِ لوْعَاتِي                فَعَبْرَتِي لم تُطِقْ نَقْعًا لِغلّاتِي

يا ليلةً في ألال قد ظَفَرْتُ بِها          كَأنَّنِي من سُروري في مِنَامَات(105)

ولعل العبدري وابن رشيد أرادا أن يشيرا إلى ما كان يُكِنُّه كل منهما لتلك المقامات الشريفة وساكنيها من الحب والوفاء الصادقين، يقول ابن رشيد: البسيط

عَاهَدْتُّهم أَنْ أفِي والصِّدْقُ من شِيَمِي    إِنَّ المُحِبَّ صَدُوقٌ في المَوَدَّات

فَهِمْتُ سِرَّ مَعَانِيهم فَهِمْتُ بِهِ          لمَّا سُقِيْتُ بِكَاسَاتِ المُصَافَاة

أرُوم إِضْمَارَه والحالُ تُظهِرُه             نُورُ الزَّجَاجَةِ لا يُخْفَي بمْشكَاة(106)

وفي هذه الأبيات نجد الشاعر متأثرًا بطريقة الصوفية، ويتضح ذلك من خلال استعمال بعض تعابيرهم واصطلاحاتهم مثل الهيام والمساقاة بكاسات المصافاة، ولعل ذلك «جريا على مذهب ابن عربي الذي كان مهيمنًا – في ذلك الوقت – على الشرق والغرب الإسلاميين»(107).

والملحوظة الجديرة بالذكر هنا هي أن أدباء المغرب وشعراءه لم يختلفوا عن الأندلسيين من حيث تعبيرهم عن التشوق إلى الديار المقدسة، وهذا لا يعود – في نظرنا – إلى اشتراكهما في العقيدة فحسب، وإنما يعود أيضا إلى اشتراكهما في الجغرافيا؛ إذ يقع كلاهما في أقصى غرب العالم الإسلامي، كما يعود إلى اشتراكهما في المسار التاريخي في العديد من الحقب، بل إنهما كانا يشكلان وحدة سياسية واحدة خلال عهد المرابطين والموحدين، وقد استمرت العلاقة بينهما قوية خلال العصر المريني بعد ذلك؛ فالأندلسيون كانوا دائما يفزعون إلى جيرانهم المغاربة حينما يشتد عليهم ضغط النصارى الإسبان، وفضلا عن كل هذا فإن معظم مواكب الحجاج الأندلسيين كانت تمر عبر المغرب حيث ينضم إليهم الحجاج المغاربة ليصبحوا موكبا واحدا، ولهذا فإننا لا نستغرب إذا رأينا المغاربة – كالأندلسيين – تشتد بهم الأشواق وهم يودعون تلك المواكب من الحجاج الذين أسعفهم الحظ وأسعدهم بزيارة الديار المقدسة، أو رأيناهم والحنين يجرفهم – بمناسبة المولد النبوي – إلى تلك البقاع التي ولد وتربى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى تلك الربوع التي أشرق فيها نور رسالته وتجلت فيها معجزاته قبل أن تنتشر ويشع نورها على الكون بأسره.

وقد كانت الأماكن المقدسة عند المغاربة – كما كانت عند الأندلسيين – تفقد في معظم الأحيان أبعادها الجغرافية لتكتسب تحت وهج الحنين أبعادا روحية؛ وبذلك يصبح كل هواء قادم من الشرق، بل كل نسمة كافية لإنعاش نفوسهم الملتهبة بحرِّ الأشواق، وتصبح تربة الحجاز بلسما يشفي من جميع الأسقام. وتتحول بعض الحيوانات عن طبيعتها، بعد أن يفيض عليها الشعراء من أحاسيسهم ومشاعرهم، وخاصة تلك المطايا التي تحمل الحجاج إلى الديار المقدسة والتي تستغني عن حداتها بعد أن تصبح هي أيضا مسكونة بالحنين الذي يدفعها ويسير بها.

ومن شعراء المغرب الذين تحدثوا كثيرا عن التشوق إلى الديار المقدسة؛ الثغري التلمساني الذي حركت أشواقه إحدى ليالي المولد النبوي التي كان يُحْتَفلُ بها في أيام أبي حمو الزياني، يقول الشاعر في مطلع إحدى قصائده:

شَرَف الُّنُفوس طلابها لعُلاها           ولبَاسها الَّتقْوى أجل حلاها

ومنها في التعبير عن غبطته لمن فازوا بزيارة الديار المقدسة وسعدوا بأداء مناسك الحج بين ربوعها:

للهِ قَومٌ أيقَـظُوا عَزَمَاتـهم                 فكأنـَّها شُهُبٌ تُضِيءُ دُجَاها

وَصَلُوا السرى بالعيسِ تنفخ في البرى   وفلوا بأيدي اليَعْمُلاتِ فلاها

وإلى الحِمَى قَبْلَ الحِمام سَرتْ بِهم      ظعن يسر الظَّاعِنين سراها

نجب هـواها في الحجازِ ووردُها         ماء العذيبِ فخلِّها وهواها

تغنيك شدةُ شَوقُـها عن سوقِها           فاخْلَعْ بَرَاها فالغَرامُ بَرَاها

أو مَا تَراها كالقِسيِّ ضَوَامِرًا            والرَّكْب مثل النبل فوقَ ذُرَاها

دَأبوا على السَّيرِ الحَثيثِ وحثهم                شَوقٌ يذودُ عن الجُفونِ كَراها

حتى بَدَا القَمرُ الذي لولاه ما            بَدَتِ النجومُ ولا بَدا قمراها

قَمَرٌ بيـثرب أشْرقَتْ أنْواره               حتى أضَاءَت أرَضها وسَـمَاها(108)

ولا يخفى ما في هذه الأبيات من امتزاج بين الشاعر وموضوعه؛ الذي يبدو واضحا فيما تحمله تلك النجب من أشواق وحنين إلى أرض الحجاز، وهو ما جعلها تستغني عمن يقودها أو يسير بها.
وبعد أن يودع الشاعر المحظوظين السعداء من رفاقه، يعود للإفصاح عن لهفته إلى اللحاق بهم، فيقول:

أيا جِيرَةَ الوَادِي بِحقِّكُم متى             يقولُ ليَ الحَادِي هَنِيئًا لكَ البُشْرى

أحل بأرضٍ حَلَّها خَير مُرَسَلٍ           غدا تربها مِسْكًا وحَصَاؤها درا

ومما تنبغي الإشارة إليه هنا هو أنه بالرغم من قوة حنين الشاعر وشدة شوقه – التي حولت المكان عن طبيعته بعد أن جعلت تربته مسكا وحصاه درا – فإن هذا الحنين كان مغلَّفا بما يشبه اليأس، كما يبدو لنا من صيغة التمني المبنية على الاستفهام في قوله: «متى يقول لي الحادي هنيئا لك البشرى؟»
وقد يشتد الشوق ببعض المغاربة ويعجزون عن زيارة البقاع المقدسة بأجسادهم فيستعيضون – كما رأينا مع الأندلسيين – عن الزيارة بتلك الرسائل التي يكتبونها لتنوب عنهم في تأدية التحية، ومن خلالها يعبرون عن عجزهم ويرجون قبول عذرهم.

ومن الشواهد الدالة على ذلك قول أبي زيد الفازازي:

يا سَيدَ الرُّسْلِ المَكِـين مَكَانه            ومُقَدمًا وهـو الأخِير زَمَانه

والمصْطَفَى المُخْتَار من هذا الوَرى     فمحلُه عالي المحل وشَأنه

ومن النبوءةِ والطَّهارةِ والهُدى           شرَفٌ حَواهُ فؤادُه ولِسَانه

عنوانُ طرس الأنْبياءِ وختمهم          والطرسُ يكملُ حسنُه عُنوانه

فالدَّهرُ خلق أحـمد إصباحه             والخُلقُ جفن أحـمد إنسَانه

ناداكَ عـبدٌ أخرَتْهُ ذُنُـوبُه                والشوقُ تلفـحُ قلبه نِيـرَانُه

وفدتْ عليكَ ركابُ أربابِ التُّقَى         والمذنبُ الخَطَّاء كفَّ عِنَانه

لَّما تَـخَلَّفَ للتخلفِ مُذنِبَا               في الـمذنبينَ وغَرَّه إِمْكَانـه

كتبَ الكِتابَ لَعَـلَّه إذْ لمْ يَزُر            بِاللَّحْـظِ قَبرك أنْ تَزُورَ بَنَانُه

وَوَرَاء أضْلاعِي فُؤَاد قيده               ألفَ الذُّنُوب وسِجْنه أشْجَانه

لكن حُبكَ شَافِعٌ ومُشَـفع                        يَغْـشَى مُحبكَ أمْـنه وأَمَانُه

وعليكَ يا خَيرَ الأَنَامِ تَحِـيَّة              كالروضِ صَافَح َروحه ريحَانه

مـمن يزوركَ خَطّه وكَلامه              إن لم يزُرْكَ لذَنْبِهِ جُثْمَـانه(109)

والقاسم المشترك بين معظم الذين لم يتمكنوا من زيارة الديار المقدسة هو أنهم يردُّون السبب في عجزهم إلى كثرة ما ارتكبوه من الآثام والذنوب؛ فالذنوب هي التي أثقلت أجسامهم وأفقدتها العزيمة اللازمة للقيام بهذه الرحلة المقدسة، كما يشتركون – رغم توهج أشواقهم – في نوع من الأمل المغلف باليأس، وهذا ما نراه بوضوح عند الشاعر ابن الغماد الذي وردت في قصيدته عبارة واحدة يمكن اعتبار الأمل فيها حقيقيا، وهي قوله: «في كل عام أرجي زورة معكم» ولكننا، باستثناء هذا الرجاء، نجد قصيدته محشوة بذلك النوع من أساليب التمني التي – وإن عبرت عن تأجج الأشواق – لا تحمل الكثير من الأمل أو الرجاء الذي ينتظر وقوعه، من مثل قوله: «يا ليت شعري هل أدنو وهل أصل» وقوله: «وهل أزور ثراه وهو خير ثرى» وقوله: «لو خف ظهري لكان الجسم مرتحلا» وقوله: «واحَسْرَتَا فَازَ غَيرِي بِالوصَالِ إلى أرضِ الحَبيبِ ودُونِي سُدَّتِ السُّبل» ولا يخفى ما في عبارة «سدت السبل» من قرب لليأس و بعد عن الأمل، ومثل هذا يمكن أن يقال بالنسبة لأدوات الاستفهام التي استخدمها الشاعر للتعبير عن أمانيه؛ والتي لا يرجى من ورائها شيء كثير.

وقد حظيت أسماء الأماكن الحجازية باهتمام الشعراء الذين نظموا في التشوق إلى الديار المقدسة، فهذا صاحبنا ابن رشيد السبتي يقول وقد تذكَّر كلَّ ما يقومُ به الحاج من الأعمال والشعائر، ولهذا ذكر منى والصفا والمروة وزمزم والحجر الأسود وقباء(110)، وغيرها من الأماكن الحجازية:

وسَقَى الله عُهُودًا بِمِنى         أَظْفَرَتْنَا بالمُنَى سَكْبُ العُهُودْ

كَمْ صَفَا مَوْرِدُنا في مَرْوةٍ       والصَّفَا بين حَدُودٍ وصُعُودْ

كَمْ لنا من شَربَةٍ في زَمْزَمٍ      بَرَّدَتْ نِيْرَانَ قَلْبِي بِبُرُود(111)

ومنها قوله مشيرًا إلى شدة شوقه إلى المدينة المنورة التي تخمد نسماتها بعض لهيب ذلك الشوق ولظاه:

إنْ سَرَتْ مِنْ طَيْبَةٍ لي نَسْمَةٌ       أَخْمَدَتْ مَا بِفُؤَادِي من وُقُود

بَلدةٌ مَنْ حَلَّهَا مَنْزِلُه               حَلَّ بِالبَلَدَةِ أو سَعْدِ السُّعُود(112)

وتتجلى هنا عاطفة ابن رشيد الحارة نحو تلك المقامات الشريفة وشدة شوقه إليها، ونلاحظ كذلك ما فيها من استعمال مصطلح من مصطلحات منازل القمر وهو (سعد السعود) إشارة إلى موقع تلك المناسبة في نفسه وابتهاجه بها.

وقد خمَّسَ القصيدة السابقة صديقه أبو عبد الله بن الحكيم، وهذا يدلنا على تناول الأدباء والشعراء لشعر ابن رشيد السبتي بالدرس والتحليل والنسج علي منواله، وذلك لبلاغته وجودته ولما يحمله من المعاني الشريفة والبليغة، ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن ابن رشيد السبتي كان من شعراء المغرب والأندلس الذين لا يُشَقُّ لهم غبار أمثال: مالك بن المرحل وعبد العزيز الملزوزي(113) وحازم القرطاجَنِيّ(114) وابن عبد المنان(115) وغيرهم.

ولا يختلف ملوك المغرب عن ملوك الأندلس في التعبير عن أشواقهم إلى البقاع المقدسة، فيما يرفعونه من قصائد أو رسائل، وفيما يقدمونه بين يديها من اعتذارات؛ فهم في حنينهم وحديثهم عن الأشواق لا يختلفون عن الشعراء العاديين بحيث نجدهم – وهم يودعون ركب الحجاج – تجتاحهم الأشواق وتهفو بهم أجنحة الحنين إلى تلك البقاع التي لم يسعفهم الحظ بزيارتها، كما نراهم وأرواحهم ترحل مع الحجاج لتترك أجسادهم محطمة من عدم الرحيل والتمتع بالجوار، ولكنهم حين يصلون إلى موطن الاعتذار يختلفون عن عامة الناس، إذ نراهم – في معظم الأحيان – لا يكتفون بالاعتذار عن الذنوب كالعامة، وإنما يضيفون أعذارا أخرى تختلف عن أعذار العامة؛ فهم ملوك أُنيطَت بهم مهمة الجهاد والدفاع عن المسلمين، ولذلك فإنهم ما تخلفوا عن ركب الحجاج إلا لحفظ الشريعة المحمدية في أوطانهم – كما سبق أن ذكرنا – وإخماد الفتن التي تشتت وحدة المسلمين وتضعف صفوفهم في مواجهة المتربصين بهم من النصارى.

ومن هؤلاء الملوك أبو حمو موسى الثاني الملك الزياني الذي استهل إحدى مولدياته بقوله:

نامَ الأحبابُ ولم تنـم            عيني بـمصَارعةِ الندمِ

وفيها يقول:

أدعُوكَ إلـهي مُعْتَذِرًا            في ضـوءِ الصبحِ وفي الظُّلَمِ

قَلبي انفطرا والدُّمعُ جَرى       والرَّكْبُ سَرَى نحو العَلَم

قَلـبِي بِنَواه أسِـيُر هَواه           فيا شـَوقَاه إلى الخـيم

سَرَتِ الإبـل لمَّا ارْتَحَلوا         قَلبِي حَـمَلوا في ركبِهم

حَمَلوا خلدي أفنوا جَلدي                تركوا جَسَدي رهن السَّقم

حَطَّ العُـشاقُ ركَائِبَـهم           بين العَلَمَـينِ وبالحَرَم

وغَدَا الـمشْتَاقُ بِزَفرَتِه           في مَغْـرِبه يبْـكِي بِدَم

قد قَيَّـدَني ما قَلدَني             منْ أمْرِ حَكِـيمٍ ذي حكم

وصُرُوفُ الدَّهـرِ تُعَارضُني     عمَّا أبغيه من القَسَم

سَاروا وُذنـوبي تُقْعِدُني          فَـَقَرعتُ السِّنَ منَ الَّندَم

وبكيُت الدمعَ على زَلَلي                ومزجتُ الدَّمع بفَيضِ دم

بدتِ الأنْوارُ على السُّمارِ       من الأقْـَمارِ بذي سَلَم

زاروا الهادي بهوى بادي        وحَدا الحَادي عَزْمًا بهم

شَدوا عَزموا فَازوا غَنِموا        لما قَدِمـوا لحِمَى الحَرَم

طَافوا بالبيتِ وقَد وقَفُوا         ودَعَـوا إذ ذاك لرَبـهم

غُـِفرتْ بالبيتِ ذُنوبهم          عندَ الإقراِر بِذَنـبِهم

جِسمِي بتِلْمسَان دنف          والقلبُ رهـينُ الحرم

ولأني أميـُر الخلقِ فَلَم          أسطع سَيرًا منْ أجْلِهم

فأقمتُ أصلح ما أفسدت       بالغربِ الفتن الدّهم

وبعثتُ رسالةَ مكتَئِب          لشفيعِ العُربِ مع العَجَم(116)

وإذا نحَّينا الاعتذار بالمسئولية جانبًا، فإن صاحبنا لا يختلف عن غيره من الشعراء في التعبير عن شوقه وحنينه، كما لا يختلف عنهم في أسلوبه الذي غلبت عليه روح اليأس التي تكررت في العديد من القصائد الشعرية.

وتأخذ الأماكن المقدسة في شعر التشوق والحنين عند أبي حمو الزياني – كما هي عند غيره من الشعراء – أبعادا روحية تخرجها عن طبيعتها الجغرافية. وهذا ما نجده واضحا في القصيدة التي افتتحها بقوله:

ألفتُ الضَّنَى وألفتُ الَّنحِيبا             وشَبّ الأسَى في فُؤَادِي لهِيَبا

حيث يقول:

وأضْحَى منَ الشوقِ جِسْمِي عَلِيلا      وأمسَى من الهَجْرِ قَلِبي كَئِيبا

أحِنُّ إلى الفَجْرِ عندَ الطّلوع            وللشَّمْسِ حينَ تَرومُ الغُروبا

إذا هبتِ الّريحُ من طَـيبة               تَعَطَّرتِ الأرضُ مِسْكًا وطِيبَا

فَأصبو إليـها ومن أجْلِهَا                        أحِبّ الصّبا وأُحِبُّ الجَنـوبا

تَـهب النواسِمُ من أرضِهَا               فيزدادُ نار اشْتياقِي لَهِـيَبا

حَنِينًا وشَوقًا إلى الـمصطفى            إلى مَنْ بهِ اللهُ يـمحُو الذّنُوبَا

فيا حَادِي العِيسَ نَحو الحِمَى           إذا جِئتَ ذاكَ الجَنابَ الَّرحِيبا

وزادَ الهوى حينَ زالَ النّوى              وجئتَ اللّوى واعتمدتّ الكَثِيبَا

لقبرِ التّهـامِي لبدرِ التَّمَام               لخيـرِ الأنامِ شَفِـيعا حَبِيـبا

فَبَـلّغْ إليه سَـلامِي عَليه                 فإنَّ لدَيـهِ لسُقْـمِي طَبِيـبَا(117)

فظواهر الطبيعة لم تعد عنده عادية في تأدية وظائفها اليومية؛ فلم يعد طلوع الفجر أو غروب الشمس أو هبوب النسمات من ظواهر الحياة العادية، وإنما اكتسبت – بفعل اللهفة والشوق – أبعادا وجدانية ودلالات روحانية، وما ذلك إلا لأنها قادمة من جهة المشرق حيث تلك الديار التي تهفو إليها نفوس المسلمين في كل وقت وحين.

ومن ملوك المغرب الذين كتبوا إلى الحضرة النبوية – أيضا – أبو زكريا الحفصي صاحب تونس؛ الذي بعث إلى الروضة الشريفة برسالة زاوج فيها بين الشعر والنثر(118)، حيث استهلها بالنثر ثم انتقل إلى الشعر ليعود إلى النثر مرة أخرى، ثم انتقل ثانية إلى الشعر قبل أن يختم بالنثر، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى ذلك العذر المشترك الذي يقدمه الملوك بين يدي رسائلهم – في أغلب الأحيان – وهو أن تأخرهم عن زيارة البقاع، رغم شوقهم لرؤية ساكنها، إنما يرجع إلى انشغالهم بالجهاد للدفاع عن شريعته وحماية أمته، وهذا ما نراه في هذين المقتطفين من تلك الرسالة الطويلة، حيث يقول في أولهما:

سَلامٌ كعَرفِ الرّوضِ باكره القَطر       إذا ما خَطا قَطْر تَدَاولَه قَطْر

تَحِية مَنْ قَد قَسم الشَّوقُ قَلبَه           فَفِي طَيبة شَطْرٌ وفي تونس شَطر

أطَارَتْ قِسِي الشَّوق أفْلاذ صَدره                فَللّه ما أودى به ذلكَ الأطر

كأنَّ النَّوى لَم تصم غيرَ جَوانِحِي       فَوا كَبدِي لو در لي ذلك الشَّطر (119)

أما في المقتطف الثاني، وهو نثري، فيقول: «على أني يا رسول الله لم آل جهدا في طاعتك التي بها نهتدي، ولا أغفلت فريضة جهاد أروح عليه وأغتدي، فمتى أحسست نبأة بادرت إليها، فقد قلت صلى الله عليك جهاد يوم خير من الدنيا وما عليها، فإن تأخرت عن زيارتك إقداما فقد أعملت في عضد سنتك أقداما، وإن لم أنتبه فإني يقظ لما جئت أنت به، وإن لم أرد من تلك الشريعة، فإني بان دفاعي عن شريعتك بكل ذريعة، في بلاد تجادع أفاعيها، ويصم واعيها، ولا يجاب إلى شقاق واختلاق داعيها، فقد صارت المواسط تغور فتنتها وتنجد، وتركع فيها المواضي إلى محاريب السنابك وتسجد، وقد أوى كثير من بلاد الإسلام إلى ذمة الصليب، ولم يأخذ أهلها من الرأي والأناة بنصيب، فوقفت دونها لا رغبة عن مهوى أفئدة العباد، ورعيت هدونها لا تثاقلا عن بيت سواء العاكف فيه والباد، ورابطت أطرافها لا عجزا عن البيت العتيق….»(120).

وشاعرنا هنا لا يختلف في تشوقه عن الشعراء والكتّاب العاديين؛ فأشواقه قوية وحنينه جارف ممزق؛ ولكنه رغم انشطار قلبه بين طيبة وتونس نراه يقدم واجب الدفاع عن الشريعة وحماية ديار الإسلام امتثالا للسنة النبوية التي تقدم الجهاد في سبيل الله عن كل ما سواه.

ومن قصائد ابن رشيد السبتي التي أظهر فيها مقدرته الفنية، وعبر فيها عن مشاعره العارمة تجاه الديار المقدسة، ما أنشده بعدما ملء عيبته وأنهى رحلته ووصل إلى بلدته سبتة متشوِّقًا – مرة أخرى – إلى أراضي الحجاز، وذاكرًا بعض الأفعال المرجو قبولها بتلك المشاهد العظيمة المقدسة، يقول: الطويل

أَقُولُ إذَا هبَّ النَّسيمُ المُعَطَّرُ           لعَلَّ بَشِيرًا باللِّقَاءِ يُبَشِّر

وعلَّ الصَّبا مَرَّتْ عَلى رَبْعِ جِيرَتِي      فَعَنْ طِيبهم عَرْفُ النَّسيم يُعَبِّر(121)

وقد كان الحجاز يأخذ بمجامع لب السائحين والراحلين والأدباء والشعراء وأهل الوجد والتصوف،و كانت الإقامة في الحرم الشريف تملأ أرجاء عقل الحاج ونفسه وقلبه وشعوره بعاطفة دينية خاصة ومعان روحية عامة، وها هو الشاعر الأندلسي يعبِّرعن ذلك في قصيدة له، يقول فيها:

مَا لِطَرْفي عَنِ الجَمَالِ بَرَاحُ            ولِقَلْبِي بِه غِذَاءٌ ورَاحُ

كلُّ مَعْنًى يَلُوحُ في كلِّ حُسْنٍ           لِي إليه تَقَلُّبٌ وارْتِيَاحُ

وغَرَامِي به نَديمٌ وشُرْبي                دَائمًا من سُلافِه أقْدَاحُ

أجْتَلِي الحُسْنَ شَاهِدًا فيه مَعْنى         هو رُوحٌ وما سواه اشْبَاحُ

فَبِهم يُعْشَقُ الجمَالُ ويُهوى             ويَشُوقُ الحِمَى وتُهوى المِلاحُ

وبِهم يَعْذُبُ الغَرامُ ويَحْلو               ويَطيْبُ الثَّنَاء والامْتِدَاحُ

لا تَلُم يا خَليُّ قَلْبيَ فيهمْ                مَا عَلىَّ مِنْ هَوى المَليحِ جُنَاحُ

ويْحَ قَلبي وويْحَ طَرْفي إلى كَمْ          يَكْتُمُ الحُبَّ والهَوى فضَّاحُ

صَاحِ عَرِّجْ على العقيقِ وسَلْعٍ          وقُبَاءٍ فيها الوجوه الصِّباحُ

قِفْ بِجَرْعَائِها ونَاد بنَادٍ                 مُشْرِقِ الرَّوضِ عِطْرُه فَيَّاحُ

يا أُهَيْلَ الحِمَى وأهْلَ المُصلَّى          ورُبُوعٍ تَشْتَاقُها الأَرْواحُ

للمُحِبِّ المَشُوقِ قَلبٌ جَريْحٌ             وبتُرْب الحِمَى تُدَاوَى الجِرَاحُ(122)

والملحوظة التي تجدر الإشارة إليها هي أن الشاعر ابن رشيد السبتي وغيره من شعراء التشوق إلى الديار المقدسة والمتصوفة قد مزج ذكر الأماكن المقدسة بالغزل الرمزي مثلما يمزج الشعراء ذكر الديار والوقوف على الأطلال بغزلهم وشوقهم إلى محبوباتهم، وكما يكون ذكر الديار عند الشعراء مدخلا إلى الغزل وتذكر المحبوبة وعرض مشاعرهم نحوها وحنينهم إليها يكون ذكر المقدسات عند الحجازيين مدخلا للغزل الرمزي، وبث لواعج الوجد، وإظهار مشاعر الصدق والمحبة.

ومن الشواهد الدالة على ذلك، قول العفيف التلمساني(123):

لولا الحِمى وظِباءٌ بالحِمى عُرُبُ                ما كان في البَارقِ النَّجْدِيّ لي أَرَبُ

وفي رياضِ بُيوتِ الحَيِّ مِنْ إضَمٍ      ورْدٌ جَنِيٌّ ومِنْ أَكْمَامِه النُّقَبُ

وبي لدى الحِلَّةِ الفَيْحَاءِ غُصْنُ نَقًا      يَهْفُو فَيجْذِبُه حِقْفٌ فَينْجَذِبُ

أعاهِدُ الرَّاح أنِّي لا أُفَارِقُهَا              مِنْ أجْلِ أنَّ الثَنَايَا شِبْهُها الحَبَبُ(124)

وفي التشوق إلى الديار المقدسة يتحول النسيب إلى عشق للذات النبوية، ويكنّي الشاعر عن عشقه للرسول – صلى الله عليه وسلم – بالعقيق وليلى، وتتحول الأسماء والمسمَّيات إلى رموز يفجِّر الشاعر من خلالها أشواقه ومشاعره، ومن ذلك قول أبي العباس الحُسَيْنِي(125):

خَليلَيَّ مَا قَصْدِي العَقِيْقُ ولا الحِمَى     ولا الغَورُ مِنْ شَأنِي ولا مَطْلَبِي نَجْدُ

ولا لِيَ في لَيْلَىْ ولُبْنَى لُبَانَةٌ             ولا مِنْ هَوى نَفْسِي سُلَيْمَى ولا هِنْدُ

ولكنَّ قَصْدِي مَن بِيَثْرِبَ لَحْدُهُ          فَبورِكَ مَا ضَمَّ الهُدَى ذَلِك اللَّحْدُ(126)

ويرسل الشعراء أشواقهم وحنينهم إلى الأرض المقدسة، حينما يكونون بعيدين عنها، ولا يستطيعون الوصول إليها، مرة يحمِّلونها – كما مرَّ معنا – للراحلين إلى الحجاز للحج أو العمرة أو للتجارة أو لأى شأن من شؤون الدين والدنيا، ومرة أخرى يحملونها للبرق والنسيم، فحين يشاهد الشاعر البرق يُومِضُ من جهة الحجاز يتذكر المرابع التي يتحرق شوقًا لرؤيتها، فيخاطبه بقوله:

أعِدْ يَا بَرْقُ ذِكْرَ أُهَيْلِ نَجْدٍ             فإنَّ لكَ اليَدَ البَيْضَاءَ عِنْدِي

أشِيْمُكَ بَارِقًا فَيضِلُّ عَقْلي              فواعجبًا تُضِلُّ وأنت تَهْدِي(127)

وقد تفنَّنَ الشعراء كذلك في تحميل النسيم أشواقهم وحنينهم إلى معاهد الحجاز ومشاهده – على عادة أساليب الشعراء العشاق – وجعلوها تشاركهم في وجدهم ومحبتهم للأماكن المقدسة، مثل ابن رشيد الذي جعل النسيم مُهيِّجًا لأشجانه، وحاملًا لسلامه إلى أهل البقاع الطاهرة، فقال:

أيَا نَسِيمًا سَرَى من نَحْو أرْضِهِمُ                بِاللَّه عُجْ بالحِمى واقْرَأ تَحِيَّاتي

واشْرَحْ لهم حَالَنا مِنْ بَعْدِ بُعْدِهم         واحْذَرْ، وحَاشَاك تَضْييعَ الأَمَانَات

هل شَربةٌ لأُوامِ القلبِ مطفئةٌ           أو رَشْفةٌ، فشفائي في ارْتِشَافات(128)

وتنتهي قصيدة التشوق إلى الديار المقدسة بالتوسلات، فيذرف الشاعر من الدموع ما استطاع، ويتذلل ويستسلم، فمن ذلك قول محمد المغيلي(129) مستعطفًا متضرعًا من قصيدة حجازية:

يا سَيِّدي يا رسولَ اللَّهِ خُذْ بِيَدِي                يا مَنْ لِقَاصِدِه أمْنٌ مِنَ النِّقَمِ

يا سَيِّدي يا رسول اللَّه خُذْ بِيَدِي                فَبَحْر جُودِكَ مَوْرُودٌ لكلِّ ظَمِى

يا سيّدَ الرسلِ يا مَنْ ضَيفُ ساحَتِه     يَبيْتُ بالأمن في خَير وفي نِعَم(130)

وقول ابن رشيد السبتي:

أَقُولُ إِذَا وَافَيْتُ أكْرَمَ مُرْسَلٍ             قِرايَ عَليْكُم أَنَّ ذَنْبي يُغْفَر

وأَحْظَى بتَقْريبِ الجِوار مُكَرَّمًا          وأَصْفَحُ عن جَوْر البِعاد وأُعْذُر

وأَرْتَع في ظِلِّ الجِنان منعَّمًا            وأُمْنَى بِقُرْبٍ مِنْ حِماكَ وأُجْبَر(131)

ويقول أبو اليمن بن عساكر:

وأَجِزْنِي عَلى الصِّرَاط بِرُحْمى           مِنْكَ أَنْجُو بِهَا ويَسِّرْ حِسَابِي

فَذُنُوبِي كَثِيرَةٌ ليس تُحْصَى             وعُيوبي شَتَّى مَلأْنَ عِيَابِي

فَأقِلْ عَثْرَتي وثَبِّتْ مُرَادِي               لا يَزِغْ في مَوَاطِن الإرْهَاب(132)

وقد تختتتم الحجازية بإزجاء التحية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه كما في قول مالك بن المرحل:

يا ركبَ مصر رُويدًا يَلْتَحِقْ بِكمُ                قَومٌ مَغَارِبَةٌ لَحْمٌ على وَضَم

فيهم عُبَيْد تَسُوقُ العِيسُ زَفْرَتَه          لم يَلْق مولاه قد نادَاه في النَّسم

يَبْغِي إليه شَفِيْعًا لا نَظيرَ له            في الفَضْل والمجدِ والعَلياءِ والكَرَم

ذاكَ الحَبِيْبُ الذي تُرجَى شَفَاعَتُه                محمدٌ خيرُ خَلْقِ الله كلِّهمِ

صَلَّى عليه إلهُ الخَلْق ما طَلَعَتْ                شَمْسٌ وما رُفِعَت نَارٌ على عَلَم(133)

وكقوله أيضًا في حجازية أخرى:

ويا لَوْعَةً أُوْلِعَتْ بالقُلوبْ               ولا قَلْبَ إلا بِهَا يَشْتَعِلْ

ويا سَيِّدَ النَّاس أنت الشَّفِيْعْ             وأنت العِمَادُ إذَا العَبْدُ زَلْ

وأنت الرَّجَاءُ غَدَاة المَخَافْ             وأنت الأمَانُ غَدَاةَ الوَجَلْ

فَصَلَّى عَليْكَ إلهُ السماءْ                        صلاة مضاعفةً تَتَّصِلْ

وصلى عليك إلهُ السَّمَاءِ               صَلاةً مَدى الدَّهْرِ لا تَنْفَصِل(134)

ويقول ابن الحاج النميري مُخْتتمًا إحدى قصائده:

وعِنْد المُصَلَّى أَعَدْتُ الصَّلاة           على المُصْطَفَى والتَثَمْتُ الجِدَارا

وأقْبلتُ أُهْدِي بباب السَّلام              إليه سَلامًا وأُبْدِي الوَقَارا(135)

ومما نخلص إليه هو أن شعر التشوق إلى الديار المقدسة يشكل ظاهرة بارزة في الشعر المغربي والأندلسي، وهو – من وجهة نظرنا – استجابة طبيعية لظروف المغاربة والأندلسيين.

وقد كان لكثافة هذا اللون الشعري (التشوق إلى الديار المقدسة) وغنى معانيه، وقربه من الواقع الاجتماعي والإيماني ما يجعل منه لونًا شعريًا يفوق أكثر ألوان الشعر العربي خصوبة وعمقًا وشفافية وصدقًا.

الخاتمة

من خلال ما قد تقدَّم استنتج الباحثان أن فن الَّتشوق إلى الديار المقدَّسة (الحجازيات) ظهر معبرًا عن الشوق والحنين عند شعراء المغرب والأندلس الذين لم يستطيعوا أداء فريضة الحج وزيارة تلك المعاهد الطاهرة، كما عبَّر عن العشق والوجد عند متصوفة الغرب الإسلامي الذين جعلوا للأماكن المقدَّسة مكانًا مهمّا في حياتهم الصوفية.

وقد امتاز هذا الغرض الشعري الشَّريف بالصدق والشفافية، وذكر الكثير من المشاعر الكريمة ووصفها وصفًا دقيقًا يشتمل على صور شتى للحلِّ والتِّرحال وإبداء الشوق والهيام، وذكر الحب والغرام على طريقة أهل التصوف في حبِّهم وتشوقهم للذات الإلهية.

وفي بعضها وصف للنبي – صلى الله عليه وسلم – وفضله وطلب الشفاعة والإجارة من عذاب الخزي يوم القيامة والتوسل به إلى الجنة، وفيها إسداء التحية والصلاة والسلام عليه، وفي كل ذلك تضخيم وتهويل يليقان بجلالة الموقف وقدسيته، وذلك أمر طبيعي بالنسبة لمسلم ترتبط مشاعره وشعائره الدينية بتلك الآثار التي تشكل عنصرًا من أهم عناصر أعماله في الصلاة والحج، ولعل هذا هو السبب الذي كان يدعو أولئك الشعراء للغياب عن عقلهم في الوقت الذي ينشدون فيه أشعارهم؛ لينتقلوا إلى تلك الديار فيزوروها بأرواحهم قبل أبدانهم، ولهذا أيضًا تجيء تلك القصائد بديعة الصور والمعاني والأساليب، وبالرغم من طولها وإسهابها فإنها تأتي سائغة مقبولة لا يُمَلُّ من قراءتها أو إعادتها.

وإذا كان التشوق للمعاهد الحجازية نابعًا من قدسيتها، وهذه القداسة تعود فيما تعود إلى شهودها ولادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعثه ودفنه فيها، فإن ذكر الأماكن المقدسة يفترق عن المديح النبوي؛ لأن قصائده لم تنشأ في الأصل لمدح النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

ويلتقي فن التشوق للأماكن المقدسة مع المديح النبوي أحيانًا، عند ذكره للرسول الكريم، وحين يُقَدَّم لقصائد المديح النبوي به، فهذا الفن له علاقة بالمديح النبوي، ولكنه لا يعدَّ مدحًا نبويًا خالصًا، ذلك الفن الذي تقاطع مع فنون أخرى وافترق عنها.

ومن أبرز النتائج التي توصَّلنا إليها في هذا البحث الشريف بشرف أغراضه وموضوعاته، هو أن طغيان التَّصوف واتِّسام المغرب والأندلس – في عصر صاحب الرحلة التي معنا – بسمة التديُّن وازدهار الشعر الديني بكلِّ أنواعه, كل ذلك كان له كبير الأثر على الأغراض الشعرية الأخرى, حيث إنَّنا تعودنا أن نرى في عصور أخرى – سواء في المغرب أو في الأندلس أو في المشرق – الكثير من الأغراض الشعرية الزاهرة كالخمريات والغزليات والمجونيات وأنواعًا أخرى لا تقل تهتكًا وخلاعة وفحشًا ينطق فيها أصحابها بكل حرية, بل وبكل وقاحة ويطلقون فيها العنان لخيالهم السابح في أجواء بعيدة, ولعاطفتهم الجامحة التي قليلًا ما تقيم وزنًا للقيم الاجتماعية, ولا تعرف للأخلاق قيمة.

قلنا: إن هذا النوع من الشعر الذي تعودنا وجوده في أقطار أخرى يكاد لا يجد مكانًا في عصر صاحبنا ابن رشيد السَّبتي؛ وذلك لأن الأحوال الاجتماعية التي كان يعيش فيها أهل الأندلس والمغرب – مهما اختلفت حيثياتهم ومهما كانت طبقاتهم – أصبحت تشكِّل عوامل رئيسية وظواهر خاصة تقف حجرعثرة في وجه الانحلال الخلقي، وتحول دون الانسياق وراء العواطف الجامحة المريضة, وتعرقل التعبير بصراحة عن الأحاسيس الفردية الخاصة وعمَّا يدور في النفوس من انفعالات حسية أو وجدانية لها مساس كبير بالشاعر الذي لا يستطيع التَّنفيس عن نَفسِه بواسطة الشعر؛ خوفًا من سخط الرأي العام ومسايرة للقيم الاجتماعية والخلقية والمثل العليا.

ولكن ليس معنى هذا أن أصحابنا من شعراء الأندلس والمغرب كانوا دون غيرهم إحساسًا وتذوقًا للفن ومظاهر الجمال في الطبيعة والإنسان, كلَّا؛ لم يكونوا أقل من غيرهم إعجابًا بمنظر جميل أو تأثرًا بوجه حسناء فاتن يوقد في القلب نارًا, ويولِّد فيه عواطف حبٍّ وشغف, وكلف يجعل الشاعر يهيم بمحبوبته ويشتاق إليها في تحرُّق وتلوّع يدفعانه إلى الإفصاح أو التعبير عن ذلك شعرًا أو نثرًا.

 نعم قد يختلف أصحابنا – كغيرهم من الناس – في درجة الإحساس وردود الفعل والتأثر، ويتفاوتون في سرعة التعبير وقوة الخيال كما يختلفون في أجسامهم وعقولهم, ذلك من الحقائق المسلَّم بها, إلا أن أصحابنا كان يجمعهم سلوك عام عرفوا به وتميزوا به عن غيرهم, هذا السلوك طابعه التديُّن والعفة والوقار, وسمته الحشمة والرزانة, وذلك نتيجة العوامل التي وقفنا على ذكرها في ثنايا هذا البحث وطيَّاته.

من الممكن أن يكون أصحابنا من ذوي العواطف السيِّئة والسلوك الفاحش الذي لا يقيم للأخلاق وزنًا ولا يعرف للمعايير الاجتماعية قيمة, من الممكن أن يكونوا فسَّاقًا, متهتِّكين ماجنين, إباحيين شاذين, ذلك كله ممكن ولكن ما سجَّله لنا التاريخ عنهم أو سجَّلوه هم عن أنفسهم بواسطة شعرهم أو نثرهم, يجعلنا ننفي عنهم هذه الأوصاف وندرجهم تحت لواء عصرهم الذي كان يتَّسم بالتَّدين.

بعد هذا نعود فنقرِّر ونقول – وبالله التوفيق -: إن أصحابنا رغم ذلك التحفُّظ الذي أبديناه في معرض هذا البحث، قالوا شعرًا في الشوق وفي الحب وفي الغزل وفي غير ذلك من الأغراض التقليدية المعهودة في كل عصر من العصور.

وقبل نهاية الحديث عن التشوق إلى الديار المقدَّسة في الشعر الأندلسي والمغربي، نودُّ أن نلفتَ النظر إلى أنَّه كما كانت في المغرب والأندلس القصائد الحجازية، كانت هناك أيضًا الرسائل الحجازية التي توجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تنمّ عن التشوق الشديد لزيارة البقاع المقدسة وتَغَلْغُلِ الروحِ الدينية المتمكِّنة في النفوس المغربية والأندلسية، هذا بالإضافة إلى أنها – أي: الرسائل الحجازية – تعطينا صورة صادقة واضحة لما كان عليه الإنسان المسلم في المجتمع المغربي والأندلسي حينما يخطر بباله التفكير في أداء فريضة الحج، بل وعندما يعزم على تحقيقها إذا ساعده القدر وواتته الفرصة.

وأمثلة الرسائل الحجازية كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر رسالة لأبي القاسم علي بن يوسف بن رضوان، وأخرى للسان الدين بن الخطيب وغيرهما كثير، وهذا ما سيكون عليه مدار الحديث – بعون الله ومدده وتوفيقه – في بحثنا القادم؛ حتى نكون قد أحطنا بكل أدبيَّات التشوق إلى الدِّيار المقدَّسة في المغرب والأندلس .

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

الهوامش والتعليقات

(1) هناك اختلاف فى أسماء بعض أجداده بين المصادر المختلفة. ينظر مثلًا الإحاطة 3/135، الدرر الكامنة 4/111، درة الحجال 2/96، أزهار الرياض 2/340. والسبتى بكسر السين وفتحها هكذا ضبطها عبد المنعم الحميرى السبتى فى ترجمته لسبتة. نقلًا عن د/ أحمد الحدادي في تحقيقه للرحلة 1/21.

(2) ابن الخطيب، الإحاطة أخبار غرناطة، 1/326، 3/136، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، سنة 1979م، 1/555، 2/204.

(3) الصفدي، الوافي بالوفيات، طبعة 1381هـ،1962م، 4/284 – 286.

(4) ترجمته في الإحاطة، 2/444.

(5) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: المقري التلمساني، تحقيق مجموعة من المحققين، اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي، المغرب، سنة 1400هـ/1980م، 2/343.

(6) ابن الخطيب، الإحاطة، 2/453.

(7) المصدر السابق، 3/137.

(8) نفسه، والمكان نفسه.

(9) نفسه، 3/136.

(10) نفسه، 3/143.

(11) المقري: أزهار الرياض، 2/348.

(12) ابن الخطيب، الإحاطة، 3/135.

(13) ابن خلدون: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، ص 59.

(14) ابن الخطيب، الإحاطة، 4/13.

(15) المصدر السابق، 1/172.

(16) نفسه، 3/184.

(17) نفسه، 3/201.

(18) راجع الإحاطة 3/137،محمد شقرون: مظاهر الثقافة المغربية، ص 192، من أعلام الفكر والأدب في العصر المريني، ص 188، والرحلة 1/175.

(19) تاريخ الأدب الجغرافي: أغناطيوس كراتشكوفسكي، ترجمة صلاح الدين هاشم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة سنة 1965م، 1/383.

(20) آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة د/ حسين مؤنس، دار المعارف، القاهرة، سنة 1965م، ص 319.

(21) ابن الخطيب، الإحاطة، 3/137.

(22) الصفدي: الوافي بالوفيات، 4/258.

(23) ابن القاضي: درة الحجَّال، 2/97.

(24) المقري: أزهار الرياض، 2/350.

(25) ابن الخطيب، الدرر الكامنة، 4/111.

(26) حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، اعتني بطبعه وتصحيحه محمد شرف الدين ورفعت بيلكه، طبعة دار العلوم الحديث، بيروت، لبنان، بدون تاريخ، 1/836.

(27) عبد الحي الكتاني، فهرس الفهارس والأثبات، تحقيق د/ إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، سنة 1402هـ/1982م، 1/443.

(28) الصفدي: الوافي بالوفيات، 4/285.

(29) ابن الخطيب، الإحاطة، 3/142.

(30) رحلة ابن رشيد (ملءُ العَيْبة بما جُمع بطول الغَيْبَة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكَّة وطِيبة)، تحقيق الدكتور أحمد حدادي، منشورات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، سنة 1424هـ/2003م، 3/48.

(31) المصدر السابق، 2/21.

(32) نفسه، 2/1.

(33) نفسه، 2/3.

(34) نفسه، 2/41.

(35) نفسه، 2/66.

(36) نفسه، 2/65.

(37) نفسه، المكان نفسه.

(38) نفسه، ج 3 مواضع متفرقة، ص 21، 22، 23، 48، 64، 79، 95، 96.

(39) المصدر نفسه، 3/10.

(40) نفسه، 3/11، 12.

(41) نفسه، 3/57 – 60.

(42) نفسه، 3/23.

(43) ترجمتها في الجزء 3، ص 79 – 81.

(44) نفسه، 5/8 – 9.

(45) نفسه، 5/25.

(46) نفسه، 5/6.

(47) نفسه، 5/2.

(48) نفسه، 5/3.

(49) نفسه، 6/2.

(50) نفسه، 6/55 – 61.

(51) نفسه، 6/62 – 63.

(52) نفسه، 6/64 – 72.

(53) نفسه، 7/5.

(54) نفسه، 7/63.

(55) أمثال: الأحوص وجميل وكثير، والمجنون.

(56) د/محمود سالم: المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، سنة 1966م، ص 171.

(57) راجع ما كتبناه في بحثنا الموسوم بالنثر الفني، ص 165.

(58) القلقشندي: صبح الأعشى، 6/469.

(59) وفي الرحلة العياشية أنه كان بجانب الروضة الشريفة مكان تقرأ فيه الحجازيات التي يبعث بها أصحابها إلى الروضة الشريفة. انظر: أبو سالم العياش: الرحلة العياشية، تحقيق د/محمد حجي، الرباط، ط2، سنة 1977، ص228.

(*) انظر د/ أيمن ميدان: النثر الفني في مملكة غرناطة،  ص168

(60) د/محمد المنوني: ركب الحاج المغربي، تطوان، المغرب، ط1، سنة 1953م، ص 27.

(61) المقري: أزهار الرياض، 4/180.

(62) ابن عبد الملك: الذيل والتكملة، 5/287.

(63) علال الغازي: مناهج النقد الأدبي بالمغرب خلال القرن الثامن للهجرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ط1، سنة 1420هـ/1999م، ص 258.

(64) ابن رشيد: ملء العيبة 7/66.

(65) ابن عبد الملك: الذيل والتكملة، 5/365.

(66) المصدر نفسه، 5/293.

(67) ابن الخطيب: الإحاطة، 2/271.

(68) المقري: أزهار الرياض، 4/11، 20، 23، 33، 79.

(69) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/51.

(70) المصدر السابق، 7/66.

(71) المصدر نفسه، والمكان نفسه.

(72) النميري: مذكرات ابن الحاج النميري، ص 29.

(73) لأبي زكريا الحفصي حجازية أوردها ابن عذاري في البيان المغرب، قسم الموحدين ص 392.

(74) في أزهار الرياض الجزء الرابع نماذج كثيرة منها، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها.

(75) ترجمته في الإحاطة لابن الخطيب.

(76) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67، ابن الخطيب: الإحاطة، 3/138.

(77) المصدر السابق، 7/67، الإحاطة، 3/139.

(78) المصدر نفسه، 7/67، الإحاطة، 3/139.

(79) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67، ابن الخطيب: الإحاطة، 3/139.

(80) ترجمته في الإحاطة لابن الخطيب.

(81) الرحلة المغربية: أبو عبد الله محمد العبدري الحيحي، تحقيق محمد الفاسي، نشر وزارة الدولة المكلفة بالشئون الثقافية، الرباط، سنة 1388هـ/1968م، ص 211.

(82) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67.

(83) ابن رشيد: ملء العيبة، 1/141.

(84) المقري: أزهار الرياض، 4/183.

(85) القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 2/623، وذلك في تعظيم أمره صلى الله عليه وسلم ولزوم توقيره وبره.

(86) المقري: أزهار الرياض، 4/183.

(87) انظر: د/ إبراهيم أبو جبل، النثر الفني في الدولة المرينية، ص 65.

(88) هو أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي، اشتهر بالفضل والصلاح، له مشاركة في العلوم والشعر، صنف كتاب (محاسن المجالس) على طريق القوم، وكانت وفاته سنة 526هـ. انظر: ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب 4/112.

(89) ابن خلِّكان: وفيات الأعيان، 1/169.

(90) مالك بن المرحل: ديوانه ص 351، ابن الخطيب: الإحاطة 3/314 – 315.

(91) مالك بن المرحل: ديوانه، ص 361.

(92) المصدر السابق، ص 362.

(93) ابن رشيد: ملء العيبة، 2/509.

(94) المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 2/623.

(95) المصدر السابق، 2/462.

(96) القبتوري: رسائل ديوانية من سبتة في العهد العزفي، تحقيق د/محمد الحبيب الهيلة، طبع المطبعة الملكية، الرباط، سنة 1399هـ/1979م، ص 33، التجيبي: مستفاد الرحلة والاغتراب، تحقيق عبد الحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب، ليبيا، سنة 1395هـ/1975م، ص 228.

(97) مستفاد الرحلة، ص 228 – 229، رسائل ديوانية، ص 33.

(98) ابن الخطيب: الإحاطة، 4/271.

(99) المصدر السابق، ص 283.

(100) المصدر نفسه، والمكان نفسه.

(101) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67، والإحاطة 3/140.

(102) هو أبو الحسن بن علي اللخمي المعروف بابن عسيلة، فقيه وأديب، أصله من مراكش، من أدباء المائة الثامنة. ترجمته في مذكرات ابن الحاج النميري، ص 61.

(103) النميري: مذكرات ابن الحاج النميري، ص 64.

(104) العبدري: الرحلة المغربية، ص 171.

(105) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/51

(106) المصدر السابق، المكان نفسه.

(107) د/ عباس الجراري: الأدب المغربي، 1/143

(108) المقري: مختارات من الشعر الأندلسي والمغربي، تحقيق د/ إبراهيم مراد، دار الغرب الإسلامي، سنة 1986، ص224.

(109) النميري: مذكرات ابن الحاج النميري، ص222.

(110) الصفا والمروة وزمزم وقباء: أماكن حجازية.

(111) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/51.

(112) المصدر السابق، المكان نفسه.

(113) ترجمته في الجزء الرابع من الإحاطة.

(114) المصدر السابق.

(115) المصدر نفسه.

(116) المقري: أزهار الرياض، 2/233.

(117) المقري: نفح الطيب، 1/182.

(118) ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق د/إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت سنة 1983 ص344.

(119) المصدر السابق، ص228.

(120) نفسه.

(121) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/56، ابن الخطيب: الإحاطة 3/138، ومن الملاحظ وجود اختلاف كثير بين كلمات هذه القصيدة في المصدرين، وتنبغي الإشارة أيضًا إلى أن محقق الإحاطة لم يشر إلى ذلك أو أنه لم يطلع على القصيدة في الرحلة التي هي المصدر الرئيسي لشعر صاحبنا ابن رشيد السبتي.

(122) ابن رشيد: ملء العيبة، 5/52.

(123) هو سليمان بن علي بن عبد الله، شاعر سكن دمشق وباشر بعض الأعمال فيها، وكان يتصوف على طريقة ابن عربي في أقواله وأفعاله، ألف عدة كتب منها شرح النصوص لابن عربي وله ديوان شعر، توفي سنة 690هـ. انظر في ترجمته: ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب.

(124) الصفدي: الوافي بالوفيات، 4/56.

(125) هو أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أبي الشرف الحسَيْنِي. ترجمته في مذكرات ابن الحاج النميري، ص1.

(126) المصدر السابق، ص1-2.

(127) ابن شاكر الكتيبي: فوات الوفيات، تحقيق د/إحسان عباس، دار صادر، بيروت 3/237.

(128) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/51.

(129) هو محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي المتوفي سنة 909هـ، قام على يهود توات وألزمهم الذل، وأثخن فيهم الجراح، ونظم في تلك القضية قصائد في مدح النبي وذم اليهود. انظر ترجمته في: ابن عسكر: دوحة الناشر ص 130 – 132، وابن مريم في البستان ص 253 – 257.

(130) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67، والإحاطة، 3/140 – 141.

(131) ابن رشيد: ملء العيبة، 7/67، والإحاطة، 3/140 – 141.

(132) ابن رشيد: ملء العيبة، 5/37 – 38.

(133) مالك بن المرحل: ديوانه ص 351 – 352، والإحاطة 3/315.

(134) المصدر السابق، المكان نفسه.

(135) أحمد بن القاضي: جذوة الاقتباس في ذكر من حلَّ من الأعلام مدينة فاس، دار المنصور، الرباط، سنة 1973م، 1/94.

المصادر والمراجع

* الإحاطة فى أخبار غرناطة: لسان الدين بن الخطيب، تحقيق الأستاذ محمد عبد الله عنان، نشر مكتبة الخانجى والشركة المصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1393هـ/1973م.

* أدب الرحلة عند العرب: د/ حسنى محمود حسين، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط2 سنة 1403هـ/1983م.

* أدب الرحلة: د/ حسين نصار، طبع دار نوبار للطباعة، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1 سنة 1991م.

* أدب المغاربة والأندلسيين: د/ محمد رضا الشيبى، معهد الدراسات العربية، القاهرة، سنة 1960م.

* أزهار الرياض فى أخبار القاضى عياض: الشيخ أحمد بن محمد المقرى التلمسانى، تحقيق مجموعة من المحققين، اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامى، المغرب، سنة 1400هـ/1980م.

* الأدب المغربى: لمحمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفى، نشر مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبنانى للطباعة والنشر، بيروت، ط1 سنة 1960م.

* الأسلوب (دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية) د/ أحمد الشايب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، بدون تاريخ.

* بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط2 سنة 1979م.

* تاريخ الأدب الجغرافى: أغناطيوس كراتشكوفسكى، ترجمة صلاح الدين هاشم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة سنة 1965م.

* تاريخ الجغرافية والجغرافيين فى الأندلس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة، سنة 1406هـ/1986م.

* تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: رحلة ابن بطوطة, طبع دار التراث، سنة 1388هـ/1968م.

* جذوة الاقتباس في ذكر من حلَّ من الأعلام مدينة فاس: أحمد بن القاضي، دار المنصور، الرباط، سنة 1973م.

* الجغرافية والرحلات عند العرب: نقولا زيادة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، ط3 سنة 1982م.

* الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهرة، بدون تاريخ.

* ديوان الشريف السبتي: تحقيق د/ أيمن ميدان، مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية، دار الوفاء، الإسكندرية، ط1 سنة 2011م.

* ديوان حازم القرطاجني: تحقيق عثمان الكعاك، دار الثقافة، بيروت، لبنان، سنة 1989م.

* ديوان مالك بن المرحل: تحقيق د/ محمد مسعود جبران، المجمع الثقافي، الإمارات العربية المتحدة، ط2 سنة 2005م.

* رحلة ابن رشيد (ملءُ العَيْبة بما جُمع بطول الغَيْبَة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكَّة وطِيبة)، تحقيق الدكتور أحمد حدادي، منشورات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، سنة 1424هـ/2003م.

* الرحلة المغربية: أبو عبد الله محمد العبدرى الحيحي، تحقيق محمد الفاسى، نشر وزارة الدولة المكلفة بالشئون الثقافية، الرباط، سنة 1388هـ/1968م.

* الشفا بتعريف حقوق المصطفى: للقاضي عياض، تحقيق علي البجاوي، دار الكتاب اللبناني، ط1 سنة 1984م.

* الصور الشعرية: دي لويس، ترجمة أحمد نصيف الجنابي، سلسلة الكتب المترجمة، وزارة الثقافة، بغداد سنة 1982م.

* العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: ابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 4 سنة 1972م.

* عن بناء القصيدة العربية الحديثة: علي عشري زايد، مكتبة دار العلوم، القاهرة سنة 1978م.

* عنوان الأريب عمن نشأ بالمملكة التونسية من عالم وأديب: محمد النيفر، تذييل واستدراك ابن المؤلف الشيخ علي النيفر، دار الغرب الإسلامي، ط1 سنة 1996م.

* فهارس علماء المغرب: د/ عبد الله المربط الترغى، منشورات كلية الآداب والعلوم.

* مختارات من الشعر المغربي والأندلسي لم يسبق نشرها: منسوب لأبي العباس المقري، تحقيق د/ إبراهيم مراد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 1 سنة 1986م.

* المدائح النبوية: د/ محمود علي مكي، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، القاهرة، سنة 1990م.

* مذكرات ابن الحاج النميري: لابن الحاج، تحقيق ألفريد دي برمار، بدون تاريخ.

* مستفاد الرحلة والاغتراب: القاسم بن يوسف التجيبى السبتى، تحقيق وإعداد عبد الحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، سنة 1395هـ/1975م.

* مظاهر الثقافة المغربية (دراسة فى الأدب المغربى فى العصر المرينى): د/ محمد بن أحمد بن شقرون، نشر دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب سنة 1406هـ/1985م.

* النبوغ المغربى فى الأدب العربى: الأستاذ عبد الله كنون، نشر دار الكتاب اللبنانى، ومكتبة المدرسة، ط2 سنة 1961م.

* نثير الجمان في شعر من نظمني وإيَّاه الزمان: لأبي الوليد إسماعيل بن يوسف بن الأحمر، تحقيق د/ محمد رضوان الداية، طبع عالم الكتب، بيروت، ط1 سنة 1986م.

* نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان، وهو كتاب (مشاهير الشعراء والكتَّاب في المشرق والأندلس والمغرب): لأبي الوليد إسماعيل بن يوسف بن الأحمر، تحقيق د/ محمد رضوان الداية، طبع عالم الكتب، بيروت، ط1 سنة 1986م.

* الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى: د/ محمد بن تاويت، نشر دار الثقافة المغربية، الدار البيضاء، ط1 سنة 1403هـ/1983م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *